جلس صلى الله عليه وسلم تحت شجرة عنب وراح يناجى ربه بدعائه الشجي المؤثر الذي تعلّمه منه (( درسا ثالثا))كل مسلم يمرّ بشدّة أو بلاء أو محنة إلى قيام الساعة :
«اللهُمَّ إنِّي أشْكُو إليْكَ ضَعْفَ قَوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وهَوَانِي عَلى النَّاسِ. يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلَى بَعِيدٍ يُتَجَهَّمُنِي أو إلى عَدُوَ مَلَّكْتَه أمْرِي، إن لمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي، ولكِن عَافِيَتَكَ هي أوْسَعُ لِي. أَعوُذُ بِنُورِ وجْهِكَ الذِي أشْرَقَتْ بِه الظُلُمَاتُ وصَلُحَ عَلَيهِ أمْرُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ من أنْ تُنْزِلَ بي غَضَبَك، أو تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، و لاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ» . (1)
فلما رآه ابنا ربيعة شعرا نحوه بالعطف – لأنهما من أقاربه - فأمرا غلامًا لهما نصرانيًا اسمه عَدَّاس بأن يعطى محمدا قطفًا من العنب . وضع عدّاس العنب بين يدي الحبيب صلى الله عليه وسلم فمد يده إليه قائلًا: (باسم الله ) ثم أكل.
(( نلاحظ هنا درسا رابعا في جواز قبول هدية وضيافة الكافر للمسلم عند الضرورة وجواز أكل طعامه))
سيطرت على عدّاس دهشة بالغة . لقد كان يعلم أن سكان مكة وما حولها مشركون يعبدون الأصنام ، فمن أين لمحمد هذا – ذكر اسم الله تعالى على الطعام -.قال عدّاس للنبي متعجّبا : إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. سأله صلى الله عليه وسلم : (من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟) قال عدّاس : أنا نصراني من أهل نِينَوَى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى).. زادت دهشة وعجب عدّاس فسأل النبي : وما يدريك ما يونس ابن متى؟ أجاب صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي). فأكبّ الغلام على رأس الرسول صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها باكيا .
(( درس خامس للدعاة : أنه صلى الله عليه وسلم استثمر حتى لحظات الاستراحة القصيرة ، رغم الأوجاع والآلام والإصابات البالغة في جسده الشريف ، في دعوة الغلام إلى الإسلام كما نلاحظ))
قال ابن ربيعة لأخيه : أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عدّاس صاحا به : ويحك ما هذا؟ أجاب : يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي ، قالا له بغيظ شديد : ويحك يا عدّاس ، لا يصرفنّك عن دينك، فإن دينك خير من دينه. وهكذا أسلم عدّاس رضي الله عنه.
(( وتلك ثمرة سادسة من ثمرات الرحلة المباركة.
ونتعلّم من عدّاس بدوره درسا بليغا (( سابعا)) هو أن الإنسان ينبغي عليه قول الحق وإتباعه فورا بلا اعتبار لرأى المجتمع أو حجم التضحيات أو المخاطر التي قد يتعرض لها ، فانه لم يعبأ برأي سيده وأخيه واعتراضهما ، وجهر بتأييد الحق والإيمان بالله و بالرسول ، رغم ما قد يصيبه بسبب ذلك)) .
ولم يكن هو وحده الذي أسلم بسبب تلك الرحلة ، فقد أسلم عدد من عبيد الطائف لكنهم ظلّوا يكتمون إيمانهم – في رأى كاتب هذه السطور-إلى أن تمكنوا من الفرار من بطش سادتهم ، ولحقوا بالمسلمين بعد ذلك فأعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم(2) ..ولو لم يذهب الرسول في رحلته الأولى تلك إلى الطائف فكيف كانت الفرصة ستأتي إلى هؤلاء جميعا للعلم بالإسلام ثم الدخول فيه ؟!! (( وهى الثمرة الثامنة))
وهذا هو الحال في كل الرسالات السماوية ، إذ جرت سنّة الله تعالى على أن يكون أكثر من يتّبعون الحق هم الضعفاء والأرقاء ، وأن يكون أعداء الرسل هم الطواغيت وزعماء القوم الذين تهدّد رسالة الإيمان والعدالة والمساواة مصالحهم وحياتهم المترفة الناعمة ، وامتيازا تهم الظالمة على حساب باقي البشر.
ثم إن واجب الرسول – كل رسول- هو الدعوة والبلاغ فحسب ، وأما النتائج – الهداية- فهي بيد الله وحده لا شريك له .ولو كان نجاح الدعوة يقاس بعدد الأتباع فحسب لظنّ بعض السطحيين والجهلة أن نبيّا عظيما مثل سيدنا نوح عليه السلام قد أخفق أيضا – حاشا لله - لأنه عاش يدعو قومه إلى التوحيد ألف سنة إلا خمسين ، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل من الناس حملتهم سفينة واحدة .
وهناك الحديث المتفق عليه الذي أخبر فيه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أنه يأتي يوم القيامة أكثر الأنبياء أتباعا ، وأن من الأنبياء من سوف يأتي ومعه الرجل الواحد ، ومنهم من سيأتي ومعه الرجلان ،ومنهم من سيأتي وليس معه أحد. (نص الحديث في الصحيحين)
و كذلك نورد جزءا من حديث رواه الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ...وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجلٌ واحد ) .هل يعيب نبيا عظيما أنه لم يؤمن به أحد من قومه ؟!! بل ماذا يمكن أن يقال – لو قبلنا هذا المنطق الأحمق – عن أنبياء عظماء قتلهم أقوامهم، وخاصة من قتلهم اليهود لعنهم الله ؟!! أتقولون عن الشهداء الأبرار أنهم قد فشلوا أم أنهم فازوا فوزا عظيما يغبطهم عليه كل من سواهم؟!
إن الرسل عليهم السلام جميعا قد أدّوا الأمانة وبلّغوا الرسالة على أتم وأكمل وجه ، وليست الكثرة دليلا على الحق أو النجاح ، فالنبي هو الحقّ ، وهو الأمّة ولو كان وحده، ولم ولن يدخل في الإسلام إلا من شاء الله .
ومن ينشط للدعوة ويؤدى واجبه في إبلاغ الرسالة فقد نجح تماما بغض النظر عن النتائج. وهناك آيات كثيرة حاسمة تفيد صراحة أنه ليس على الرسول إلا البلاغ - أي التبليغ - أو الإبلاغ والإرشاد والإيضاح فحسب ومنها :
1- (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة المائدة: 92].
2- وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [سورة النحل: 35].
3- فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ [سورة النحل: 82].
4- قلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [سورة النور: 54].
5- وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [سورة العنكبوت: 18].
6- وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ )سورة يس: 17).
والهداية بيد الله وحده لا شريك له :(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة القصص الآية 56 .وآية كريمة أخرى تقول صراحة : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
سورة البقرة الآية 272 .
وعلى ضوء ما تقدم نعلم يقينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنجز المقصود الأعظم وهو دعوة القوم إلى الله ، ونجح كل النجاح في رحلته المباركة.