يقول ابن القيّم في "الجواب الكافي" في تعداد منافع غََضّ البصر، إنه امتثالُ لأمر الله تعالى، وإنه يورث القلب أُنساً بالله تعالى، وإنه يقوّي القلب ويُفرحه ويُكسبه نوراً، وإنه يُورث الفراسة الصادقة ويطلق نور البصيرة، ويورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، وإنه يسدُّ على الشيطان مَدْخله من القلب، فإنه يدخل مع النظرة، وإن بين العين والقلب مَنفذاً، فإذا فَسَد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب.
أنّ البصر هو القوّة التي أودَعها الله تعالى في العين، فتُدرك بها الأضواء والألوان والأشكال، والبصر ضد العمَى. ولَمّا كان البصر هو محل النظر، فالنظر هو تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، ونظرت في الأمر: تَدبَّرت وفكرت فيه. والأصل في النظر الإباحة إلاّ ما ورد الدليل على حرمته.
من أحكام غض البصر
المُراد بغض البصر، عدم إطلاق النظر، وغض البصر أحكامه كثيرة ومتعدّدة، فقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بأن يغضوا أبصارهم عمّا حرّمه عليهم، دون ما أباح لهم رؤيته. وإذا اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد، فليصرف البصر عنه سريعاً، لأن البصر هو الباب الأول إلى القلب ورائده، وغضه واجب جميع المحرّمات وكل ما يُخشَى منه الفتنة. لقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) (النور/ 30-31).
والرجل والمرأة في الأمر بغض البصر سَوَاء، والدليل على ذلك قول الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ). فقد أمر الله تعالى النساء بغض أبصارهنّ كما أمر الرجال.
وقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الرجل أن يغض بصره عن عورة المرأة، واستدلّوا على ذلك بأدلة. منها قول الله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ).
الترخيص في عدم غض البصر
يترخّص شرعاً في عدم غض البصر في مَوضِعين: الأول إذا وقع النظر على سبيل الفجأة، والثاني إذا دَعَت إليه ضرورة أو حاجَة.
أما نظر الفجأة، فإنّ الفجأة هي البَغتَة من غير تقدّم سبب، ويُقصد بنظر الفجأة النظر غير المقصود من الناظر. ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ هذا النظر عُفي عنه ولا إثم فيه، لمَا ورد عن جرير بن عبدالله، أنه قال: سألت رسول الله(ص)، عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري، فدلّ على أن الإثن في استدامة النظر بعد نظر الفجأة، وليس في النظرة الأولى غير المقصود أيُّ إثم، ولِمَا ورد عن بُريدة، أنه قال: قال رسول الله(ص) لعلي: "يا علي، لا تَتبع النظرة النظرة، فإنّ لكَ الأولى وليست لك الآخرة". فدلّ على أن النظرة الأولى إذا كانت من غير قصد لا إثم فيها.
وأما نظر الحاجَة، اتّفق الفقهاء، من حيث الجملة على إباحة النظر للضرورة والحاجة إلى ما يُحرم النظر إليه عند تحققها، وإنما وقع بينهم خلاف في تحديد الحاجات المبيحة والمَواضِع التي يُحلُّ النظر إليها، وشروط الإباحة، وقد ذكر الفقهاء من الحاجات المبيحة في عدم فض البصر: الخطبة والتداوي والقضاء والشهادة والمعاملة والتعليم وغيرها.
أمور تعين على غض البصر
بناء على تَقدّم من أحكام شرعية تخصّ غض البصر للمرأة والرجل، فإنه ينبغي تعويد النفس وتدريبها على غض البصر عن كل ما حرّم الله تعالى، ومن الأمور التي تعين على ذلك، استحضار وتذكُّر حقائق معيّنة، منها قضاء الله تعالى الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب، وأنه تعالى سيُحاسب كل عبد من عباده على جميع أعماله، وأنه جلّ وعَلا سوف يسأل كل إنسان عن بصره، هل غضه عمّا حرّم الله تعالى أم لا؟ وليتذكر الإنسان، إنّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ البَصَرُ.
قال الزركشي: شُخوص البصر، هو الحالة التي يُشاهِد فيها المحتضر ملك الموت، وهذه الحالة هي التي لا تُقبَل فيها التوبة. قال الله تعالى: (وَلَيْسَت التّوبَةُ للذينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئات حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوتُ قالَ إنّي تُبتُ الآنَ..) (النساء/ 18). وأن يتذكر أنّ الله تعالى، الذي حفظ عليه نعمة بصره، بما عهده عنده وقوّة النظر، قادر على إذهابها وحرمانه منها، وهو على كل شيء قدير.