إلى الإسلام > الرسل و الرسالات > الحاجة إلى الرسل
أولا : لقد خلق الله تعالى الإنسان وزوده بوسائل المعرفة ليكون خليفة في الأرض حتى يعمرها ويسخر ما فيها لمعيشته ومن ثم يتخذها مقرا لعبادة الله تعالى .
ثانيا : إن الإنسان رغم ما زوده الله تعالى به من وسائل معرفية إلا أنه لا يستطيع الإحاطة في معرفته إلا بالقدر اليسير من كثير مما حوله في هذا الكون الفسيح المحسوس المرتبط ارتباطا وثيقا بحياته ذلك أن أكثر ما في هذا الكون يدخل في عالم الغيب النسبي أو المطلق بالنسبة للإنسان مما يجعله في حاجة إلى مصدر عليم بأمر الكون حتى يزوده بمعلومات تزيح عنه الستر وتكشف عنه بعض الغيب .
ثالثا : لما كان الإنسان مفطورا على عبادة الله تعالى كما أنه مأمور بذلك وجوبا لزم أن تكون تلك العبادة على علم بالمعبود وهو الله تعالى وهذا العلم لا يمكن الوصول إليه مفصلا بالعقول المجردة ، كما أن العبادة لا يمكن معرفة كيفيتها بالعقول المجردة وبذلك يكون الإنسان بحاجة دائمة إلى خبر من مصدر موثوق يمكنه من معرفة الله تعالى وكيفية عبادته .
رابعا : إن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكنه العيش منعزلا عما حوله من كائنات وموجودات فهو كذلك بحاجة إلى قواعد ونظم لترتيب حياته الفردية والاجتماعية والأسرية وبدون هذه النظم تصبح هذه العلاقات قائمة على الفوضى والتنازع و ارتباط هذه القوانين والنظم بالتشريع الإلهي يضمن لها الثبات والاستقرار لأنها تصدر عن عليم بخلقه مدرك لمصالحهم إدراكا كاملا مطلقا أضف إلى ذلك أن الإنسان قد استقر في وجدانه أنه لابد من حياة أخرى يجازى فيها الناس على أعمالهم في هذه الحياة الدنيا فكان مقتضى الحكمة أن يبين الله تعالى ذلك لخلقه .
خامسا : سبق أن بينا طبيعة الصلة بين الخالق والإنسان وذكرنا بأن الاتصال بين الله تعالى والإنسان يكون بواسطة الملائكة ولكن لما كانت طبيعة الملائكة تختلف اختلافا كاملا عن البشر كان لابد من وجود خصوصية في الصلة بين الملائكة وبين البشر لذا قضى الله تعالى بحكمته البالغة أن يصطفى من البشر أفرادا ذوى طبيعة خاصة ويعدهم إعدادا خاصا للتكيف مع طبيعة الاتصال بالملائكة حتى تتنزل هذه الملائكة عليهم بأحكام الله تعالى وشرائعه .
والوجوه السابقة مجتمعة تؤكد الحاجة الأساسية لإرسال الرسل حتى يقوموا بتحقيق هذه الغايات .
النبوة منحة إلهية :
إن النبوة اصطفاء خالص من الله تعالى يختص به من يشاء من عباده الذين توفرت فيهم صفاتها فهي لا تنال بالمجاهدة والمعانات وتكلف أنواع العبادات أو الاجتهاد في تهذيب النفوس وتنقية الخواطر وتطهير الأخلاق بأنواع الرياضات النفسية والبدنية . فالإنسان يستطيع أن ينمي مواهبه المختلفة فيصبح رياضيا بارزا أو عالما مرموقا أو عابدا مخلصا غير أنه لا يستطيع بكل ذلك أن يكون نبيا رسولا فالنبوة بذاتها مرتبة فوق مرتبة البشر العاديين لأنها خارج الحدود التي يستطيعون الوصول إليها باجتهاداتهم فالذي يختاره الله تعالى يؤهل بعنصر لا يحتاج للبشر العاديين ذلك هو الاتصال بالله تعالى عن طريق الوحي قال تعالى : ((قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلى)) والوحي أمر إلهي محض لا أثر لسعى المرء في كسبه أو دفعه وبالتالي فالنبوة إلزامية غير كسبية فلا ينالها الإنسان بالجهد الفكري أو الترقي الروحي والأخلاقي ولا عبرة في حصولها للقيم الدنيوية والاعتبارات المادية فالله تعالى قد اختص بالنبوة من شاء في الوقت الذي شاء وفقا لحكمته وعلمه ورحمته قال الله تعالى : (( الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير )) وقال تعالى : (( الله أعلم حيث يجعل رسالته )) وقال تعالى لموسى عليه السلام : ((إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي)) وقال تعالى في وصف الرسل جملة : ((وانهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ))
بشرية الرسل
إلى الإسلام > الرسل و الرسالات > بشرية الرسل
لقد جرت السنة الإلهية على اختيار الرسل رجالا من بني البشر يتمتعون بكافة خصائص الجسد البشري وصفاته لما كانوا يتعاطون مستلزمات الجسد واحتياجاته من طعام وشراب وتناسل فإذاً لابد أنهم بشر طبيعيون يصيبهم ما يصيب بني جنسهم من صحة ومرض وحزن وفرح وجوع وشبع وحياة وممات قال الله تعالى : (( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ))
لماذا كان الرسل من البشر ?
1/ إن البشر أقدر على القيادة والتوجيه وهم الذين يصلحون، قدوة وأسوة وهذه الحكمة تظهر حين التأمل في رسالة أي رسول منهم .
2/ صعوبة رؤية الملائكة نسبة لاختلاف طبيعته الملائكة وطبيعة البشر إذ الاتصال بالملائكة فيه عناء وجهد شديدين لا يحتمله جميع البشر فقد جاء في الحديث إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعاني من التنزيل شدة وكان إذا نزل عليه الوحي تغير لونه وتصبب عرقه وارتعدت فرائصه وكان من حوله يرون ذلك فيه فكان إرسال الرسل من البشر ضروريا كي يتمكنوا من مخاطبتهم والفقه عنهم والاختلاط بهم ولو أرسل الله ملائكة لما أمكنهم ذلك .
3/ إن الرسالة تقوم على تكليف المرسل إليهم ودعوتهم لامتثال ما يأمرهم به الرسول فلو كان الرسول من الملائكة لأمكن الناس أن يحتجوا بعدم قدرتهم على هذه التكاليف نسبة لاختلاف طبيعة الملك المرسل إذ يرون أنهم لا يستطيعون تحمل تلك التكاليف لأنها تناسب طبيعتهم . لذا قال الله تعالى : (( وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً . قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ))
مقتضى بشرية الرسل : لما كانت الرسل بشرا فقد استلزم ذلك أن يتصفوا بكل صفات البشر مما لا ينافي النبوة ومن ذلك :
1- أنهم خلقوا من جسد كسائر البشر تحتاج أجسادهم إلى ما يحتاجه سائر البشر من طعام وشراب واحتماء من البرد والحر والإصابة بالمرض والموت قال الله تعالى : (( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين )) وقال الله تعالى على لسان خليله إبراهيم عليه السلام : (( والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين )) وقد أخرج من أرضه وأهله.
وابتلي عيسى عليه السلام بالكيد له لقتله حتى رفعه الله تعالى إليه وجعل مكانه رجلا يشبهه فصلب وابتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء الشديد من قومه والذين أخرجوه من أهله وغير ذلك . وقد سأل الصعب بن سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) ومن أهم لوازم البشرية أن الرسل ليسوا بآلهة ولا فيهم شيء من صفات الألوهية ذلك أن صفات البشرية تنافي الألوهية في كل شيء لذلك فإن الرسل جميعهم لا يدعون لأنفسهم شيئا من الألوهية ويتبرؤن مما ينسب إليهم لذلك قال الله تعالى : (( وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله )) وقال : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) وقال تعالى مبينا براءة عيسى بن مريم عليه السلام مما ينسب إليه : ((وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ))
اصطفاء الرسل
إلى الإسلام > الرسل و الرسالات > اصطفاء الرسل
الرسل خلاصة مختارة من البشر : لما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام هم سفراء الله تعالى إلى خلقه يقومون بتبليغهم أوامره ونواهيه وهو سبحانه حارسهم وحافظهم كما قال الله تعالى : ((يا أيها الرسول بلغ ما أوحي إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس )) وجب أن يتصفوا بكل صفات الكمال الإنساني التي تحقق المقصود من مهمتهم العظيمة في توجيه الناس إلى الله تعالى وهدايتهم سواء السبيل فالرسل يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره ذلك أن الله تعالى اختارهم واصطفاهم لنفسه فلابد أن يختار أطهر البشر قلوبا وأزكاهم أخلاقا وأقواهم قريحة وعقلا كما قال الله تعالى : (( الله أعلم حيث يجعل رسالته ))
كمال الصورة الخلقية : لأن وظيفة الرسل تقوم على الاختلاط بالناس لزم ألا يتصفوا بشيء من العيوب الخلقية المتفردة لذا كانوا على أكمل وأحسن الصور وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام بقوله : (( ليلة أسري بي رأيت موسى عليه السلام وإذا هو رجل ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة )) وقال صلى الله عليه وسلم واصفاً عيسى عليه السلام عندما رآه في الإسراء : ((ليس بيني وبينه نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل )) وقد جاء وصف الرسول صلى الله عليه وسلم في كتب السنة والسيرة فلم يرد فيها شيء مما ينفر أو يشذ فقد كان سوي الخلقة حسن الصورة بأكمل ما يكون . وقد جاء عن وصف يوسف عليه السلام لما رأته نسوة المدينة حين دعتهن امرأة العزيز لما شاع خبرها بأنها راودت فتى العزيز قال الله تعالى واصفا حالهن حين رأين يوسف عليه السلام (( فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم )) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم واصفا يوسف وقد رآه في الإسراء : ( أعطي يوسف – عليه السلام- شطر الحسن ) وبناء على ما سبق فكل ما يذكر عن الرسل عليهم السلام أو ما ينسب إليهم من عيوب خلقية إنما هو كذب مفترى لذلك أنكر الله تعالى على الذين آذوا موسى عليه السلام ونسبوا إليه بعض العيوب قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها )) وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم كيف برأ الله تعالى موسى مما نسب إليه فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن موسى كان رجلا حييا ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا : ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده : إما برص وإما أدرة وإما آفة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فذلك قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها )
الكمال الخلقي : تقتضي مهمة الرسول أن يتعامل مع أصناف مختلفة من البشر يمثلون مجمل الخصال البشرية حسنها وسيئها ونتيجة لطبيعة وظيفته فإن الرسول مأمور بتبليغ ما أرسل به للناس وذلك يستلزم ضرورة أن يمكث فيهم ويصبر على أذاهم ويحتمل كل أنواع المضايقات التي تصدر من كثير منهم . وقد لبث نبي الله نوح عليه السلام 950 سنة يدعو قومه بالحوار والمجادلة الحسنة فما آمن معه مع ذلك إلا قليل قال الله تعالى حكاية عنه (( رب إني دعوت قومي ليلا نهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم و استغثوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا . ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا )) وهكذا بقية الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم . فإذا كان الأمر كذلك لزم أن يكون الرسول على قدر عال من الكمال الخلقي حتى يصبح أهلا لتبليغ رسالته مع ما يلاقيه من المكاره. وتحقيقا لذلك فقد بلغ الأنبياء عليهم السلام مبلغا عظيما في الأخلاق حتى أثنى الله تعالى عليهم بقوله : ((و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين )) وقال الله تعالى في إبراهيم عليه السلام : (( إن إبراهيم لحليمم أواه منيب )) وقالت ابنة شعيب عليه السلام تصف موسى عليه السلام فيما حكى الله تعالى عنها : (( قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين )) وقد ذكر الله تعالى أن الملائكة بشرت مريم عليها السلام بعيسى بن مريم عليه السلام : (( إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين )) وقال عليه السلام حين تكلم في المهد واصفاً نفسه : (( قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبراً بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا )) وقال الله تعالى في وصف محمد صلى الله عليه وسلم : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) وقال تعالى : (( فبما رحمة الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك )) ولو لم يكن الرسل عليهم السلام على كمال الأخلاق لما انقادت لهم الجموع البشرية ذلك أن الناس لا ينقادون عن رضى وطواعية لمن فحش خلقه وضاق صدره وكثرت نقائصه وقلت فضائله. ومن تصفح سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يجد المثال الأعلى للكمال الأخلاقي عند الرسل حتى إن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم وصفته حين سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل : ألست تقرأ القرآن قال نعم قالت كان خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القرآن ولا شك أن جميع الرسل كانوا مثالا راقياً للكمال الخلقي إلا أنه ليس بين أيدينا مصادر موثقه تصف لنا أخلاقهم وتورد نمازج عملية من تلك الأخلاق مثلما هو كائن في سيرة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الرسل .
صفات الرسل
إلى الإسلام > الرسل و الرسالات > صفات الرسل
إضافة لما سبق من كمال الصورة الخلقية والسمو الأخلاقي للرسل عليهم السلام فإنهم كذلك يتصفون بصفات مهمة تقتضيها وظيفتهم كوسائط بشرية بين الله تعالى وخلقه وهي صفات لابد من وجودها مجتمعة في كل رسول وهي :
أولا :الصدق :
النبوة رسالة من الله تعالى على يد رجل من الناس ليبلغ عن الله تعالى ما أرسل به فإذا كان كذلك فإن أول ما يجب أن يتصف به النبي هو الصدق سواء قبل البعثة أو بعدها إذ يستحيل أن يبعث الله تعالى كذاباً فيستحيل على الرسول أن يكذب.. فتأييد الله تعالى له بالآيات البينات دليل على صدقه كما أن اتباع الناس له وظهور أمره كل ذلك يدل على صدقه قال الله تعالى في إبراهيم : (( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا )) وقال في إدريس : ((انه كان صديقا نبيا)) وقال في وصف إسحاق ويعقوب ابني إبراهيم عليهم السلام : (( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا )) وقال في إسماعيل عليه السلام : (( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا )) وقد كان العرب في جاهليتهم قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم يلقبونه بالصادق الأمين فما كانوا يؤثرون عليه كذبا قط .
ثانيا : الأمانة :
وهذه صفة قرينة للصدق فلا يكون الكاذب أمينا كما أن الخائن لا يكون صادقا لذا يلزم أن يكون الصادق أمينا والأمين صادقا وضد الأمانة الخيانة والله سبحانه وتعالى يستحيل أن يأتمن الخائن لحمل رسالته إلى الناس كيف وقد قدمنا أن الرسل خلاصة مختارة من البشر تتمتع بالكمال الخلقي المستلزم لكل صفات الفضائل .
والأمانة صفة تشمل كثيرا من الفضائل ككتمان السر والمحافظة على حقوق الناس وتبليغ الرسالة كما حملها من عند الله تعالى والالتزام التام بكل ما يدعو الناس إليه قال الله تعالى حكاية عن شعيب عليه السلام مخاطبا قومه : (( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه)) وقال الله تعالى مخاطبا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم : (( يا أيها الرسول بلغ ما أوحى إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته )) وقال تعالى مهدداً إياه إن هو زاد فيما أوحى إليه أو أدخل فيه ما ليس منه قال الله تعالى : (( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين )) فلو جاز أن يكون الرسول خائنا لغير في الشرائع الإلهية ولأفسد في الأحكام التي يتلقاها عن الله تعالى فيضيع بذلك الغرض من رسالته وهو الصلاح والعمل بأوامر الله تعالى وحده والله تعالى لا يحب المفسدين ولا يؤيد الخائنين فكيف يؤيد من خانه وينصره ويظهره فلا بد إذا أن رسل الله تعالى قد كانوا جميعا أمناء في تبليغ ما حملوا ومن كمال صفة الأنبياء تبليغهم كل ما أرسلهم الله تعالى به وأداء رسالتهم ووظيفتهم المتمثلة في ذلك كما قال الله تعالى : (( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ))
ثالثا: الفطنة :
وذلك بأن يكون الرسول فطناً ذكيا يدرك ما يدور حوله من الأمور إدراكا سريعا ويتصرف فيه على حسب ما يقتضي العقل الحكيم الأكمل .والفطنة لازمة للرسول حتى يكون قادرا على إقناع من يدعوهم من أهل الإنصاف والاعتدال خلافا للمعا ندين الجاحدين وحتى يتمكن من إزالة الشبهة والشك من نفوسهم .
ومن مواقف الفطنة في الرسل ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في حوار مع النمرود قال الله تعالى : (( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال : أنا أحي وأميت . قال إبراهيم :فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )) وهذا موسى عليه السلام في حواره مع فرعون يثبت على قوة الحجة وبداهة البينة دون أن يثيره استفزاز فرعون واستخفافه به وقد ذكر الله تعالى ذلك بقوله : (( قال فرعون وما رب العلمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين . قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين .قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون . قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ))
رابعا : العصمة :
العصمة هي الحصانة التي يحيط بها الله تعالى أنبياءه حتى يكونوا بمأمن عن الانزلاق إلى الخطيئة وحتى لا تجد الشرور والآثام سبيلا إلى نفوسهم وحتى يظلوا منذ بعثتهم وحتى وفاتهم مبرأين من النقائص والعيوب.
أولا :العصمة في التحمل عن الله تعالى والتبليغ إلى الناس : إن الرسل اتفاقا – معصومون من النسيان في تحمل الرسالة فهم لا ينسون شيئا مما أرسلهم الله تعالى به كمماا قال الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : (( سنقرئك فلا تنسى )) وقال : (( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فالتبع قرآنه )) وقال تعالى : (( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )) كما أن الرسل معصومون في تبليغ ما أمرهم الله تعالى بتبليغه وسبب عصمتهم في ذلك ما يلي :
1- لأن الأمر لا يستقيم إذا أخطأ الرسول في التبليغ عن الله تعالى إذ يترتب على ذلك أحد أمرين :
أ- إما أن يسكت الوحي عن تصحيح الخطأ الذي وقع من النبي مما يعني أن الله تعالى أراد أن يبلغ الناس أمرا معينا ثم رضي تعالى أن يبلغ عنه النبي غير ما أمره وهذا لا يجوز على الله تعالى .
ب- وإما أن ينزل الوحي بالتصحيح فيعود الرسول ويقول إن الله أمرني أن أبلغكم كذا ولكني أخطأت في التبليغ وهذا هو تصحيح البلاغ فينتج عن ذلك لا محالة أن يفقد الناس الثقة به وكلا الأمرين غير متصور عن النبي لما سبق أن بيناه .
2- أن الأمر لا يستقيم كذلك إذا أخطأ النبي في تنفيذ ما أوحى الله به إليه لأن القدوة تنتفي حينئذ ويضطرب الأمر في نفوس الأتباع الذين اتبعوا الرسل فلا يعرفون أي طريق يسلكون .
ثانيا : العصمة من الذنوب : لقد عصم الله تعالى أنبياءه من ارتكاب الذنوب والمعاصي وطهرهم من ذلك فلا تقع منهم كبيرة مطلقا عمدا ولا سهوا كما أنهم لا يتعمدون ارتكاب صغيرة ذلك أن الناس مأمورون باتباع الرسل والاقتداء بهم كما قال الله تعالى : ((وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله )) وقال تعالى : (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر )) فلو جازت المعصية الكبيرة في حقهم لانتفت عنهم القدوة . فكل ما ينسب إلى الأنبياء من المعاصي والآثام والقبائح إنما هو كذب وافتراء عليهم لأن الله تعالى قد عصمهم من ذلك فلا يقع منهم لا اختيارا ولا اضطرارا وكيف ينسب إلى أنبياء الله تعالى شرب الخمر والزنا بل وزنا المحارم والخيانة وغير ذلك من المنكرات وقد زكاهم الله تعالى ومدحهم وهو الخبير بأحوالهم .
قال الله تعالى بعد أن ذكر قصة إبراهيم مع قومه ومحاولاتهم تحريقه قال : (( وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين)) أما ما قد يصدر منهم من الصغائر فإنهم لا يقرون عليها بل إن الله تعالى يبين لهم ذلك ويوفقهم للتوبة منها بدون تأخير لذلك لما أكل آدم وحواء من الشجرة التي منعهما الله تعالى منها حين أغراهما الشيطان فإنهما بادرا بالتوبة : (( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)) وقد بين الله تعالى في سورة أخرى كيف أغرى الشيطان آدم عليه السلام بعد أن حذره الله تعالى وبين له أن الشيطان عدو له قال تعالى : (( فوسوس إ ليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى )) وموسى عليه السلام لما أراد أن ينصر الذي هو من شيعته وكز القبطي فقضى عليه فأدرك موسى عليه السلام أنه قد أخطأ فحكى الله تعالى عنه أنه قال : (( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال ربي إني ظلمت نفسي فأغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ))
وظائف الرسل
إلى الإسلام > الرسل و الرسالات > وظائف الرسل
لقد اصطفى الله تعالى رسله للقيام بوظائف محددة باعتبارهم سفراء الله تعالى إلى عباده وحملة وحيه وتتمثل هذه الوظائف في الأتي.
أولا : البلاغ المبين :
وهذه الوظيفة بالضرورة هي المهمة الأساسية للرسل إذ ما بعثهم الله تعالى إلا لإبلاغ الناس ما نزل إليهم من ربهم وقد جاء في القرآن الكريم ثلاث عشرة أية تنص على أن مهمة الرسول إنما هي ( البلاغ ) وقال الله تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم : (( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته )) والبلاغ يحتاج إلى الشجاعة وعدم الخوف من الناس لأن الرسول يأتي بما يخالف أهواء الناس ويهدد مركز قادتهم وكبراءهم المسيطرون على الناس بالباطل ويأمرهم بما يستنكرون ويكرهون لأنه خلاف ما اعتادوه .
لذلك امتدح الله تعالى رسله قائلا : (( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله )) والرسول في بلاغه لرسالات الله تعالى مؤتمن في أدائه فلا يزيد فبها ولا ينقص منها ولو كان الأمر متعلقا به شخصيا وأوضح مثال على ذلك ما تكرر في القرآن الكريم من عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موقف من ذلك حين أعرض عن عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى الذي جاءه يسأله في أمور دينه فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم منشغلا بدعوة بعض كبراء قريش فعاتبه الله تعالى في ذلك بقوله : (( عبس وتولى أن جاءه الأعمى ))
ثانيا: دعوة الناس إلى الدين الحق ببيان ما يجب عليهم :
وهذه الوظيفة تعد من كمال البلاغ لذلك قال الله تعالى : (( وما على الرسول إلا البلاغ المبين )) لأنه الذي يبين للناس الحق من الباطل ويدعوهم لاتباع الحق . وأعظم الحقائق التي دعت إليها الرسل جميعا : توحيد الله تعالى و إفراده بالخلق والملك والتدبير والعبادة قال الله تعالى : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )) وقال الله تعالى : (( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) وقد ذكر الله تعالى أن الرسل قالوا لأقوامهم : (( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) كما أن الرسل عليهم السلام يقومون بتعريف الناس بإلههم الواحد الأحد وصفاته وقد جاء ذلك في القرآن الكريم بأوجز عبارة في سورة الإخلاص قال الله تعالى : (( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد )) ويقوم الرسل بتصحيح كل ما يخالف هذا الاعتقاد في الله تعالى مثل جعل شريك له في ملكه أو خلقه أو عبادته أو جعل صاحبة له أو جعل ولد له أو نسبة البنات إليه فقد قال المسيح عيسى بن مريم عليه السلام لقومه : (( يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )) ولما طلب قوم موسى منه أن يجعل لهم إلها مثل الآلهة الصنمية التي رأوها عند المشركين قال الله تعالى حكاية عنه في ذلك : (( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم : قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . قال أغير الله أ بغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين )) وإضافة إلى ذلك فإن الرسل يقومون بتعليم الناس شئون عباداتهم وشعائرهم من صلاة وصيام وحج وزكاة وأحكام هذه العبادات مع التطبيق العملي النموذجي من الرسول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلى ) وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التي مات بعدها : (يا أيها الناس خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) ولا يقتصر الأمر على تطبيق الشعائر فقط بل يدعوهم إلى اتباعه وتطبيق جميع ما انزل الله تعالى إليهم دون أن يجعلوا شيئا من تشريعاتهم لغير الله تعالى قال الله تعالى : ((اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون )) ثم إن الرسل في جميع ما يدعون الناس إليه يمثلون القدوة الحسنة والمثال المحتذى فهم يلتزمون بكل ما يأمرون الناس به ويجعلونه سلوكا عاما لهم في حياتهم لذلك قال الله تعالى بعد أن سرد سيرة كثير من الأنبياء في القرآن الكريم قال مخاطبا رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم : (( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )) وقال مخاطبا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والناس أجمعين : (( لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر )) وقد ضربت الملائكة للرسول صلى الله عليه وسلم مثلا كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال : ( إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا فقال اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل مليك اتخذ داراً ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مائدة ثم بعث فيها رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه . فالله هو الملك والدار هي الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول. من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل ما فيها )
ثالثا : التبشير والإنذار :
إن الحياة الدنيا دار عمل ومزرعة للآخرة وقد أرسل الله تعالى رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقد بين الله تعالى أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته قال الله تعالى : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ولما أنزل الله تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض هو وإبليس قال الله تعالى : (( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى)) فلما كانت الغاية الأساسية من وجود الإنسان في حياته الدنيا هي طاعة أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه وكانت رسل الله تعالى هي المبينة لتلك الأحكام والمبلغة عن الله تعالى لزم أن تكون من مهام الرسل الكرام عليهم السلام مهمة التبشير لمن اتبع أوامر الله تعالى بالفوز الكبير في الدنيا والآخرة والإنذار لمن خالف أوامره بالوعيد الشديد والعذاب الأليم في الآخرة حتى تقوم الحجة على الناس كما قال الله تعالى : (( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)) وقال الله تعالى : (( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين)) وهذه الوظيفة تقتضيها حكمة الله تعالى وكمال عدله ولطفه بعباده إذ إنه لا يتركهم سدي حتى يبين لهم ما يتقون فلا يؤخذون على حين غرة وغفلة بل كما قال الله تعالى : (( ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيى عن بينة )) ومن كمال رحمته وعدله أنه تكفل ببيان صنوف النعيم وألوان المتع التي أعدها لعباده المؤمنين كما بين أنواع العذاب المهلك التي أعدها للمجرمين الكافرين .
رابعا: تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة :
لقد خلق الله تعالى عباده حنفاء ولكن جاءتهم الشياطين فاجتالتهم وانحرفوا عن الفطرة السليمة التي كانوا عليها ولا تزال شياطين الجن والإنس يزينون لهم الباطل ويثيرون فيهم الشبه والضلالات ولأجل ذلك يرسل الله تعالى رحمة منه رسله كلما زاغ الناس عن الطريق المستقيم قال الله تعالى : (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين )) أي كان الناس أمة واحدة على التوحيد والإيمان وعبادة الله تعالى وحده فاختلفوا فأرسل الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين . ودعوة الرسل جميعا تقوم على التوحيد الخالص لله تعالى إلا أن كل رسول يختص بتقويم الانحراف الحادث في عصره وموطنه ذلك أن الانحراف على الصراط المستقيم يختلف باختلاف ظروف الزمان والمكان فنوح عليه السلام أنكر على قومه عبادة الأصنام التي كانت عامة فيهم وكذلك إبراهيم عليه السلام إضافة إلى أنه أنكر على قومه الاستعلاء في الأرض والتجبر فيها . وصالح عليه السلام أنكر على قومه الفساد في الأرض واتباع المفسدين . ولوط عليه السلام حارب الشذوذ الجنسي المتفشي في قومه وشعيب عليه السلام قاوم جريمة الافساد الاقتصادي المتمثل في تطفيف المكيال والميزان . وموسى عليه السلام وقف في وجه النزعة المادية التي انحرف إليها بنوا إسرائيل . ولما كان محمدُ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فقد جاءت رسالته عامة شاملة لكل أسس التقويم والهداية التي جاءت في الكتب السماوية وزائدة عليها حتى تكون صالحة لكل زمان ومكان كما قال الله تعالى : (( وأنزلنا إليك الكتاب مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق )) وقد جاءت رسالة الإسلام – حتى تناسب ختم الرسالات – جاءت مرنة تصلح لكل زمان ومكان وبيان ذلك أن العقائد والعبادات في الإسلام جاءت بها نصوص قطعية مفصلة ثابتة لا تقبل التبديل ولا التعديل لأن العقائد والعبادات في ذاتها لا تتبدل بتبدل الزمان ولا تختلف باختلاف الأعراف كما أن هيئات العبادات مناسبة لكل البشر في جميع العصور . أما الأوضاع الدستورية والمعاملات المادية والأحوال الإرادية التي يؤثر فيها تبدل الزمان والمكان واختلاف الأعراف فقد جاءت بها نصوص عامة كأسس ودعائم بينما ترك لاجتهاد الناس أن يضعوا فيما يتعلق بها أحكاما لكل زمان ما يصلح له و يناسبه بشرط المحافظة على هذه القواعد . وسبب آخر لختم الرسالات بالإسلام هو أن الأمم على عهد الرسل الأولين تعيش في عزلة لا تقارب بينهما ولا اتصال إلا على الوسائل البدائية ، لكن الوضع تغير كثيرا بعد رسالة محمد عليه السلام فأصبحت المسافات مطوية والاتصال الأممي واقع – لا سيما في العهود المتأخرة- مما جعل حمل الرسالة إلى جميع من في الأرض متاحا فاقتضت حكمة الله تعالى ختم الرسالات بالإسلام كما قال الله تعالى : (( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) وقال تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ))
خامسا : تدبير شئون الأمة عامة وسياسة أمرها :
إن المؤمنين بالرسل يكونون جماعة وأمة والجماعة لا يستقيم لها أمر إلا أن تكون تحت إمرة زعيم تدين له بالطاعة وتوكل إليه تدبير شئونها ورعاية مصالحها وتحقيق غاياتها وأهدافها ولما كان الرسول هو رمز الأمة وهاديها في شئون دينها إلى ربها لزم أن يكون قائدها في شئون دنياها حتى لا تنفصم عراها وتوهن قواها بالصراع الموهوم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية فالرسول يؤسس شئون الأمة جميعا بهدى من الكتاب منير كما قال الله تعالى لداود عليه السلام : (( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق)) وقال الله تعالى : (( وأنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون )) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي قام نبي ) وقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ((وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم و أحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )) والأنبياء في سياستهم هذه يمتازون بالأتي :
1- أنهم لا يعبرون بمواقفهم وسياستهم عن أهوائهم وتصوراتهم الخاصة بل هم في ذلك منقادون لوحي الله تعالى العليم الخبير بشئون عباده قال الله تعالى : ((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى )) وقال الله تعالى : ((أ فحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون )) فما يدعون الناس إليه من مثل وقيم ومبادئ وسلوك عملي ليس متأثرا برؤيتهم الشخصية كالزعماء والمصلحين العاديين ولا بالقصور البشري الذي يعتري أفهام البشر وسلوكهم .
2- أنهم لا يتعاملون مع الحلول الجزئية والمشكلات الجزئية وإنما يتعاملون مع الجذور الأصلية العميقة ويبحثون عن مكان الداء لاجتثاثه من أصله فلا يعالجون المشاكل بمعزل عن مثيلاتها ومسبباتها بل ينظرون إلى الأمور نظرة كلية شاملة واضعين في اعتبارهم طبائع النفوس البشرية .
3- إن الحلول التي يقدمها الرسل ليست حلولا نظرية أو تصورات عقلية مجردة كما تفعل الفلاسفة وإنما هي مناهج عملية منزلة من لدن حكيم خبير عليم بأحوال البشر والمجتمعات البشرية كما قال الله تعالى : (( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) ولذلك قدم الرسل نماذج راقية في قيادة المجتمعات إلى ما فيه صلاح الدنيا والآخرة . وهذا النجاح مكفول لكل من سلك سبيل الأنبياء في هديهم وقيادتهم للأمم قال الله تعالى : (( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلهن من بعد خوفهم آمنا ))
4- إن الأنبياء في سياستهم يمثلون القدوة الصالحة لأممهم حيث تتمثل مبادئهم وقيمهم في سلوكهم وسياستهم فهم يرتفعون عن النقائص والعيوب الشائنة التي تشوب المصلحين العاديين بما فيهم من بذور حب التزعم والسيطرة والاستغلال والتسخير للمصالح الشخصية وغير ذلك من النقائص وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم مثنيا عليه وعلى المؤمنين بقوله : (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر ))
5- إن الأنبياء وهم يسوسون شعوبهم لا يجعلون حياتهم منصرفة لمتاع الدنيا أو الالتباس الشديد بالماديات غافلين عن النواحي الروحية بل هم في غمرة السياسة يذكرونهم بالله تعالى ويربطون قلوب العباد بخالقهم فتسمو نفوسهم وتصفى قلوبهم وترقى غاياتهم كما قال الله تعالى : (( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض )) وقد ترسخت هذه القيم العالية والأهداف السامية حتى إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلوها ضمن أهدافهم عند دعوة عباد الله تعالى في الأرض إلى دين الله تعالى فهذا: ( ربعى بن عامر حين دخل على كسرى عظيم الروم عندما سأله كسرى : من أنتم ؟ فأجابه لقد بعثنا الله تعالى لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن ظلم الحكام إلى عدل الإسلام ) ثم إن خلفاء الرسل يخلفونهم في تولي شئون العباد فيحكمون بمنهج الرسل ويسوسون الناس على سنن من هديهم كما قال الله تعالى : (( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )) وقال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولـي الأمر منكم )) وأولوا الأمر هم العلماء والحكام .ولكن الذين يتولون الأمر من بعد الرسول يجب عليهم الالتزام بقواعد الشرع في سياساتهم وأن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ) فطاعة أولي الأمر ليست طاعة مستقلة بل هي تبع لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومقيدة بها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة لمن عصى الله ) فهذه القيادة ليست حكما يقوم على مفهوم ( الدولة الدينية ) المستقرة في أذهان الغرب نتيجة لترسبات تاريخية سابقة عن فترة كنسية مرتبطة بظروفها التاريخية والموضوعية وإنما الدولة في مفهوم الإسلام تقوم على أسس ومبادئ وقيم يلتزم بها كل من الحاكم والمحكوم وليس لحاكم عصمة في أن يفعل ما يشاء أو أن يتفرد بسلطة التشريع باسم النيابة عن الله تعالى ولا يتحكم في رقاب العباد باسم الوصاية والولاية على الشعب بل هو مأمور بالمشاورة وأخذ الرأي في القضايا التي تمس جموع الأمة ويلتزم فيها برأي الجماعة ولو كان رأيهم خلافا لرأيه هو كما قال الله تعالى آمرا رسوله عليه الصلاة والسلام : (( وشاورهم في الأمر )) وقال تعالى : (( وأمرهم شورى بينهم ))