تعريف الحضارة الإسلامية
أجمع العلماء على أنَّ الحضارةَ الإسلاميةَ تحتل مكانةً رفيعةً بين الحضاراتِ الكبرى التي ظهرت في تاريخ البشرية، كما أنها من أطول الحضارات العالمية عمرًا، وأعظمها أثرًا في الحضارة الإنسانية.
والحضارة الإسلامية هي نتاجٌ لتفاعل ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام، سواء إيمانًا وتصديقًا واعتقادًا، أو انتماءً وولاءً وانتسابًا، وهي خلاصةٌ لتلاقح هذه الثقافات والحضارات التي كانت قائمةً في المناطق التي وصلت إليها الفتوحات الإسلامية، ولانصهارها في بوتقة المبادئ والقيم والمُثُل التي جاء بها الإسلام هدايةً للناس كافة، لقد نجحت الحضارة الإسلامية في اختيار العناصر الصالحةِ منها، ثم مزجت بينها وأكملت نواحي النقص بحيث صار لها في النهايةِ نكهة خالصة، وشخصية مميزة استمرَّت على مدى قرون طويلة، بل ما زالت تعيش بين ظهرانَيْنا حتى الآن.
والحضارة الإسلامية نوعان: النوع الأول حضارة إسلامية أصيلة وتُسمَّى حضارة الخلق والإبداع، وقد كان الإسلام مصدرها الوحيد، وعرفها العالم لأول مرة عن طريق الإسلام، والنوع الثاني حضارة قام بها المسلمون في الأمور التجريبية امتدادًا وتحسينًا، كما عرفها الفكر البشري من قبل، وتُسمَّى حضارة البعث والإحياء، فالحضارة الإسلامية بهذا المفهوم الجامع الشامل العميق هي إرثٌ مشترك بين جميع الشعوب والأمم التي انضوت تحت لوائها، وشاركت في بنائها، وأسهمت في عطائها، وهي الشعوب والأمم التي كوَّنت وشائج الأمة الإسلامية ونسيجَها المُحْكَم.
فليست الحضارة الإسلامية حضارةَ جنسٍ معيَّن فتكون بذلك حضارةً قوميةً تنتمي إلى قوم مخصوصين، ولكنها حضارةٌ جامعةٌ شاملةٌ للأجناس والقوميات جميعًا التي كان لها نصيبُها في قيام هذه الحضارة، ودورها في ازدهارها وتألقها، وفي امتداد تأثيرها ونفوذها إلى العالم الذي كان معروفًا خلال القرون التي سطع فيها نجمُها واتسع إشعاعها وامتدَّ نفوذها.
سمات وخصائص الحضارة الإسلامية
تنفرد الحضارة الإسلامية بخصائصَ وسماتٍ تكسبها الطابعَ المميزَ لها بين الحضارات الإنسانية المتعاقبة في الماضي والحاضر على السواء، ومن هذه الخصائص:
- حضارة إيمانية
إنها حضارة إيمانية انبثقت من العقيدة الإسلامية، فاستوعبت مضامينَها وتشرَّبت مبادئها واصطبغت بصبغتها، فهي حضارةٌ توحيديةٌ انطلقت من الإيمان باللَّه الواحدِ الأحد، البارئِ المصوِّر، مبدعِ السماوات والأرض، الأولِ والآخر، الباطنِ والظاهر، خالقِ الإنسان والمخلوقات جميعًا. هي حضارةٌ من صنع البشر فعلاً، ولكنها ذات منطلقات إيمانية ومرجعية دينية، كان الدين الحنيف من أقوى الدوافع إلى قيامها وإبداعها وازدهارها، ولقد تفرَّدت الحضارة الإسلامية بكونها الحضارةَ العالميةَ التي تبلورت وازدهرت في ظل المرجعية الدينية الإسلامية، بل وكأثر من آثار هذه المرجعية الدينية، فلم يكن نهوضها وازدهارها كغيرها على أنقاض الدين وعمل الثورة على الدين كما حدث في أوروبا إبان عصر النهضة.
- حضارة عالمية
من خصائص الحضارة الإسلامية أنها عالمية الأفق والرسالة؛ فالقرآن الكريم أعلن وحدةَ النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه، في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات:من الآية13).
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدةَ الإنسانيةَ العالميةَ على صعيدِ الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها رايةُ الفتوحات الإسلامية، ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد وأمة واحدة إلا الحضارة الإسلامية، فإنها تفاخر بالعباقرةِ الذين أقاموا صرحها من جميعِ الأممِ والشعوبِ.. فأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والخليل وسيبويه والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد.. وأمثالهم ممن اختلفت أصولُهم وتباينت أوطانُهم، ليسوا إلا عباقرةً قدَّمت فيهم الحضارةُ الإسلامية إلى الإنسانية أروعَ نتاجِ الفكر الإنساني السليم.
فإذا نظرنا للحضارات السابقة على الإسلام فنجدها وقد عرفت كل الحواجز التي أقامتها بين الفئات المختلفة من رعاياها، فالحضارة الرومانية فرَّقت في الحقوقِ بين سكان روما وسكان سائر إيطاليا، ثم بين الرومان وسائر رعايا البلاد المفتوحة، وبين الذين خضعوا للإمبراطوريةِ ومن كانوا خارجها الذين دعتهم (برابرة)، أما حضارة الإسلام فقد أزالت الحواجز النفسية والمكانية بين أبنائها في مختلف أنحاء العالم فكانت بحق إنسانية عالمية.
- متماسكة في مواجهة التحديات
تماسكت الحضارة الإسلامية وثبتت أمام التحديات التي لو واجهتها أية حضارة أخرى لانتهت إلى زوال؛ فقد بنى المسلمون هذه الحضارة الإسلامية وصنعوا التاريخ الإسلامي في ظل أشرس التحديات، فلقد حرَّرت فتوحاتهم الإسلامية الأولى الشرق من القوى الاستعمارية القديمة.. الفرس والروم، ثم قهر المسلمون أطماعَ الحروب الصليبية التي دامت قرنين من الزمن، وعلى أيديهم تمت الهزيمة الأولى للمغول الذين أبادوا الأخضرَ واليابسَ، بل استطاعوا أن يُدخِلوا كثيرًا منهم في الإسلام، وفي العصر الحديث قهروا أطماع أوروبا الاستعمارية، واليوم يصنع المسلمون تاريخًا من الصمود والمقاومة ضد أحلام الإمبريالية الأمريكية في العراق وشريكتها الصهيونية في فلسطين ساعين إلى إلحاقها بمصيرِ الغزاةِ والمستكبرين.
وسر هذا التماسك في القرآن الكريم.. هذا الكتاب الخالد جمع الأمةَ الإسلاميةَ على مرِّ العصور، ومهما ضعفت فإن الله يقيِّض لها على رأس كل قرن من يجدِّد لها دينَها طالما كان بينهم كتاب الله، يقول تعالى ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)﴾ (الأنبياء) ففيه القوة الجامعة لشتاتها "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي".
ومن هنا حرص أعداء الإسلام على أن يطعنوا الأمةَ في موقعِ قوتها، وذلك بعزلها عن كتاب الله، ففي البلاد التي تتكلم بلغته حاولوا عزلها عن التطبيق لمفاهيمه وتحويله إلى شعائرَ تُتْلى في المآتم. أما البلاد التي تتكلم بلغات أخرى وكانت حروفها عربيةً فقد حرصوا على تبديل الحرف العربي الذي يربطها بالقرآن وإدخال حروف أجنبية تمهيدًا لعزلها عن مصدر (الشخصية الجماعية لأمة القرآن).
- حضارة معطاءة
إنها حضارة معطاء؛ أخذت واقتبست من الحضارات والثقافات الإنسانية التي عرفتها شعوب العالم القديم، وأعطت عطاءً زاخرًا بالعلم والمعرفة والفن الإنساني الراقي وبقيم الخير والعدل والمساواة والفضيلة والجمال، وكان عطاؤها لفائدةِ الإنسانية جمعاء، لا فرق بين عربي وعجمي، أو أبيض وأسود، بل لا فرق بين مسلم وغير مسلم، سواء أكان من أتباع الديانات السماوية والوضعية، أم ممَّن لا دين لهم من أقوام شتَّى كانوا يعيشون في ظل الحضارة الإسلامية.
- حضارة باقية
إنها حضارة باقية بقاء الحياة على وجه الأرض، تستمد بقاءَها من الإسلام الذي قامت على أساس مبادئه، وقد تكفل الله تعالى بحفظ الدين الحنيف، وهي بذلك حضارةٌ ذات خصوصيات متفردة، فالحضارة الإسلامية لا تشيخ لتنقرض، لأنها ليست حضارةً قوميةً، ولا هي بعنصرية، ولا هي ضد الفطرة الإنسانية، والإسلام لا يتمثَّل في المسلمين في كل الأحوال، لأن المسلمين قد يضعفون ويقل نفوذُهم ويتراجع تأثيرُهم، ولكن الإسلام لا يضعف ولا يقل نفوذُه ولا يتراجع تأثيرُه، وهي بذلك حضارة دائمة الإشعاع تتعاقب أطوارها وتتجدَّد دوراتها.
- ذات وحدة في الروح والطابع
أول ما يتجلَّى لنا عند النظر إلى حضارة الإسلام بصورة عامة هو وحدتها أي تشابهها في الروح والخصائص المميزة لها أيًّا كان ميدانها، فسواء نظرنا إلى الفقه أو الشريعة أو الفلسفة أو الطب أو الصيدلة أو العمارة فإننا نحس أن بينها وعلى اختلافها في الطبيعة الخاصة بكل منها خيطًا رفيعًا رابطًا يحس به الإنسان لأول وهلة، وهذا الخيط غير المنظور هو الذي يُشعرنا بأنَّ هذه كلها ميادين من حضارةٍ واحدة، ويرجع ذلك في نهاية الأمر وبدايته إلى الإسلام، الذي هو عقيدة وشريعة ونظام إجتماعي وخط سلوكي وحضارة، وهذه هي القوائم التي قامت عليها بناء الحضارة الإسلامية في شتى صورها وأشكالها، وهذه الوحدة في الروح والطابع هي التي أعطت المجتمع الإسلامي هذه الوحدة.
- حضارة متوازنة
وازنت الحضارة الإسلامية بين الجانب الروحي والجانب المادي في اعتدال، فلا تفريط ولا إفراط ولا غلو، هذه بعض سمات حضارتنا الإسلامية.