الحلقة الأولى: هل تقرأ ؟(1)
الإنسان مكون من عناصره الثلاثة الرئيسة: الجسم، والقلب، والعقل، وهذا التقسيم قصد منه تقريب المعنى لحاجات هذا الإنسان التي لا يستغني عنها لبقاء حياته المعتدلة المستقرة، بحيث لا يطغى اهتمامه ببعض تلك الحاجات دون بعض. هذا هو السبب في هذا التقسيم، وإلا فالثلاثة مرتبة ارتباط بعض أعضاء العنصر الواحد ببعض، كارتباط بعض أعضاء الجسد ببعض.
وبناء على هذا التقسيم يمكننا معرفة حاجات الإنسان:
فجسمه يحتاج إلى ما يجلب له النافع، ويدفع عنه الضار، من غذاء، ونظافة، وحركة، ولباس ... وغيرها. فإذا أهمل هذا الجسم ولم يعتن به أتاه من الأمراض والأسقام ما يضعفه أو يهلكه.
وعقله يحتاج إلى المعارف والعلوم والأفكار التي تتمم له تصوراته السليمة، وتقويها عنده، و تنير له الطريق وتبصره بما لا قدرة له على تصوره الصحيح مستقلا عما سواه، وتعصمه من الزلل وتضع له معالم ميدانه الذي إذا خرج عنه ضل سواء السبيل. وإذا أهمل هذا العقل، ولم يهتم بما يحتاج إليه من المعارف والعلوم جمد عن التفكير والإبداع، أو ضل عن السبيل السوي.
وقلبه –أو روحه- يحتاج إلى النور الإيماني والطاقة العبادية، و المدد الأخلاقي، تلك الأسس التي تضبط صلته بربه، وبنفسه، وبأبناء جنسه، وبالكون من حوله. وإذا لم تعط هذه الروح ما تحتاج إليه من الغذاء الرباني، جفت وقست، وساءت صلة صاحبها بربه وبنفسه، وبأبناء جنسه، وبالكون من حوله.
فينبغي أن يكون لكل من هذه الحاجات الثلاث: حاجة الجسم، وحاجة العقل، وحاجة الروح أو القلب، نصيب من قراءة الإنسان، ليعطي كل عنصر حقه من القراءة.
وغالب الناس –إذا ابتعدوا عن التشريع الإلهي-لا يعدلون في القسمة بين هذه العناصر، بل يبالغون في الاهتمام ببعضها، ويظلمون بعضها الآخر:
فتجد فريقا من الناس يهتمون بالجسم: غذاء ونظافة، ولباسا ومسكنا، وحركة... وإشباعا لغرائز، ويهمل وروحه وعقله، فلا يعطيهما حقهما، ولهذا تجد هذا الفريق يكثر من ذكر الطعام والشراب، والرياضة، والمال والتجارة، والأدوات المادية من مساكن ومراكب، وعقارات، ونساء....، فإذا جمعه مجلس كثر فيه ذكر ما لم يألفه من غذاء العقل والروح، ضاق به ذرعا، وفر منه هاربا كفرار الجبان من عدوه في ساح القتال.
هذا الفريق قد لا تجد فرقا بينه وبين الحيوان، إلا أنه إذا نطق فهم ابن جنسه معنى ما نطق به، أما ما عدا ذلك فقد يكون الحيوان –في الجملة- أفضل منه.
وتجد فريقا آخر يهتم بالعقل، فتراه مكبا على شتى العلوم والمعارف والفلسفات، إذا قال تسمع لقوله، وهو مهمل لروحه لم يعطها حقها من الغذاء الإيماني، ولهذا تجده قاسي القلب، خاوي الروح، بعيد الصلة بالله، وقد يكون سيئ الصلة بالناس، لا تقوى ولا ورع، ولا عبادة. وهذا قد ينفع الناس ببعض علمه وأعماله واختراعاته، ولكنه لا ينتفع هو من ذلك إلا الجزاء المادي والثناء عليه فيها بما عمل. أما في الآخرة فليس له عند الله من خلاق.
فماذا تقرأ؟
تصور أن جلسة ضمتك مع أربعة أصناف من البشر:
أحد ها مهتم بالجسم اهتماما مبالغا فيه.
والثاني مهتم بالعقل اهتماما غاليا.
والثالث مهتم بالقلب أو الروح اهتماما مُفرِطا.
والرابع مهتم بالثلاثة اهتماما معتدلا.
وطلبت منهم إرشادك إلى ما يفيدك من القراءة. فما ذا سيقول لك الأربعة؟
ستجد في الصنف الأول من يسهب لك في الكلام على تغذية الجسم بأنواع الأطعمة والأشربة المفيدة.
وتجد منهم من يسهب لك في الكلام على أنواع الرياضة المقوية لكل عضو من أعضاء الجسم، ثم كل واحد ستجده يعرض محاسن رياضته المفضلة: كرة قدم، كرة سلة، الكرة الطائرة، الجري، القفز، السباحة، ركوب الخيل، سباق السيارات....
وستجد فيهم من يسهب لك في الكلام عن النظافة وأدواتها.
وستجد فيهم من يعدد لك الملابس الصيفية والشتائية، ويعرض لك ما صنعته بيوت الأزياء للرجال والنساء، الأطفال والكبار.
وستجد فيهم من ينصحك بالبعد عن مضرات الجسم، كشرب الدخان وتناول المسكرات والمخدرات والبعد عن البيئة الملوثة جوا وبرا وبحرا، ويحذرك من شرب المياه غير الصحية ....
وستجد من ينصحك بالمحافظة على مراجعة طبيبك والمداومة على الفحوصات الطبية الكاملة المحددة المواقيت ...
وستجد في الصنف الثاني من يغريك بكثرة القراءة والاطلاع على أنواع المعارف والثقافات والفلسفات، وكل منهم يجذبك إلى قراء ما تخصص فيه، أو كان هواه معه، هذا يزين لك القراءة في الشئون السياسية، وهذا يحبذ لك القراءة عن الشؤون الاجتماعية، وذاك يعدد لك محاسن القراءة عن الوسائل الإعلامية، وآخر يغريك بالغوص في الأمور الاقتصادية، وغيره يرفع لك فوائد قراءة المناهج التربوية، وصنوه يحثك على قراءة العلوم النفسية... كل واحد منهم يرغبك لتكون موسوعة في مجاله الذي فضله في تلك المجالات. وكل منهم قد يقول لك: اطلب العلم للعلم، وليس لشيء آخر...
وستجد في الصنف الثالث من يحثك على البعد عن ملذات الدنيا وزخارفها، والإقلال من الطعام والشراب، ولبس الخشن من الثياب، والإكثار من التأمل، وإطلاق شعورك وأظافرك، و الابتعاد عن مخالطة الناس ويحضك على الانزواء عنهم في دير أو معبد، أو مسجد.
ويقول لك: إن الجسم عدو من أعدائك، فعاقبه بحرمانه مما يقويه، واجعل نفسك جلدا على عظم، لا يحول بينهما لحم ولا شحم، واهتم بروحك وقلبك فقط، ففيهما راحتك ونجاتك.
أما الصنف الرابع فستجده يقول لك: الله خلقك فسواك فعدلك. وأنت عبد لله جسمك وعقلك وقلبك لربك، في حياتك وفي ومماتك: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين لا شريك)
والثلاثة كلها –الجسم والعقل والروح-أمانة عندك يجب عليك أن تعطي كل ذي حق حقه:
فللجسم غذاؤه وكساؤه ونظافته وحركته وجماله وصحته، كل ذلك بتوسط واعتدال، فلا تفريط ولا إفراط: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك) (وكلوا واشروا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين) (ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)
وقد سابق الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه وبناقته، وشرع المسابقة للفرسان، وأثنى على الرمي والرماة: (ارموا) وقال (وأن لبدنك عليك حقا) وأمر الله المسلمين بإعداد العدة، لإرهاب أعدائهم...
(خذوا زينتكم عند كل مسجد) (إن الله جميل يحب الجمال) (إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده)
وللعقل حظه من العناية، وقد أبدى القرآن وأعاد في العناية به وهو مناط التكليف في شرع الله، وقد جال به القرآن الكريم في ملكوت السماوات والأرض: في النجوم والكواكب والشمس والقمر، والليل والنهار، ومع السحاب والمطر والبرق والرعد، ومع الملائكة في الملأ الأعلى.
كما قاده إلى السياحة في الأرض: لينظر كيف يحييها الله وكيف يميتها، وكيف مكنه من السير في مناكبها دون عناء ولا مشقة، وأودع فيها ما يجعل حياته عليها سهلة ميسرة، ما أحسن استغلالها وقام بعمارتها النافعة المفيدة، وقاده كذلك إلى السياحة في بحارها وأنهارها وأشجارها وغاباتها وحيواناتها دقيقها وجليلها، ونبهه على عظمة الجبال وألوانها ووظيفتها وفائدتها.
ولفت نظره إلى نفسه وتطورات خلقه العجيبة وتاريخ حياته في الدنيا والآخرة. (وفي السماء رزقكم وما توعدون وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم، أفلا تبصرون)
وللقلب كذلك نصيبه الوافر الذي يصله بربه من إيمان صادق، وعلم نافع، وعبادة مخلصة، وأخلاق فاضلة:
الإيمان بأصوله وفروعه الذي ينير القلب ويهديه إلى سواء الصراط، ويربطه بإخوانه المؤمنين من الإنس والجن في الأرض، والملائكة في السماء. وبه يكون فلاحه وسعادته، وبعدمه تكون شقاؤه وخسارته.
والعلم النافع المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي يجعله يسير في حياته على بصيرة من أمره، بنير له الدروب، ويرفع له معالم هادية في الطريق، فلا يضل ولا يشقى.
والعبادة –وهي العمل الصالح-فرضها ونفلها، التي يؤديها كما أمره الله مخلصا له، لا بشرك فيها بربه أحدا، وهي التي تمد إيمانه بالقوة ومزيد اليقين. العبادة الشاملة التي تجعل حياته ومماته كلها لله.
يستطيع المسلم أن يجعل حياته كلها بالنية الصادقة عبادة لله، فقيامه بفرائض الطاعات ونوا فلها عبادة، وتركه المحرمات والمكروهات عبادة، وتعاطيه المباحات أو تركها، تقربا إلى الله عبادة.
والخلق الحسن الذي يعامل به القريب والبعيد من الناس، من طلاقة الوجه، ولين الجانب، وأدب اللسان، وبذل المعروف، وصدق الحديث ... كل ذلك يزيد القلب نورا، ويمده بمعين لا ينضب من الصفاء والنقاء والصلة القوية بالله، وحسن المعاملة مع خلق الله من إنس وجن وحيوان.
وهنا يعلم الإنسان أنه محتاج إلى أن تكون قراءته عامة شاملة لما يحتاجه بصفته إنسانا كامل الإنسانية، يُعنَى في قراءته بجميع عناصره(جسمه وعقله وروحه) المترابطة ترابطا لا يكون الإنسان كامل الإنسانية إلا بها.
هل تقرأ ؟ لماذا تقرأ؟ (3)
كتبه