( نظرت في أمر الصحابة و أمر بن المبارك ، فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه و سلم و غزوهم معه ) هذا ما قاله ابن عيينه عن الرجل الصالح عبدالله بن المبارك الذي سنتحدث عن بعض من سيرته فيما يلي ..
الحمد لله ، و صلى الله عليه وسلم .. وبعد …
هو من العلماء و الأئمة المجتهدين و المجاهدين من لهم الفضل ، بعد الله ، في إعلاء كلمة الحق باجتهادهم في شتى العلوم الدينية ( و الدنيوية ) وإن المجتمعات اليوم بحاجة ماسة إلى أن ننشر فيها سيرهم حتى نسهم في ابتعاث ماضيهم الزاهر الزاخر، ليصل حاضر الأمة بماضيها ، وليطلع عليها الشباب المثقف ، ليرى من خلال تلك السير عظمة هؤلاء الرجال الذين بنو مجد الإسلام ، وبالتالي يدرك سر انتشار الإسلام وسر انكماشه على أيدي من بعدهم و يدرك صدق القائل : ( يا له من دين لو أن له رجال !! )
نشأته :
ولد ابن المبارك في السنة 118 هـ في عهد الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك ، وعاش إلى سنة 181هـ حيث توفي في خلافة هارون الرشيد ..
يحكى عن مبارك أبي عبد الله أنه كان يعمل في بستان لمولاه ، و أن مولاه جاءه يوما و قال له : أريد رماناً حلواً ،فمضى إلى بعض الشجر و أحضر منها رماناً ، فكسره ( صاحب البستان ) فوجده حامضا فحرد عليه و قال : أطلب الحلو و تحضر لي الحامض ؟ هات حلواً ..!!
فمضى و قطع من شجرة أخرى فلما كسره وجده أيضا حامضاً ، فاشتد حرده عليه ، وفعل ذلك ثالثة فذاقه فوجده أيضاً حامضاً ، فقال له بعد ذلك : أنت ما تعرف الحلو من الحامض ؟
قال : لا ..
فقال : و كيف ذلك ؟
فقال : لأني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه ...
فقال : ولم لم تأكل ؟
فقال : لأنك لم تأذن لي بالأكل منه !
فعجب من ذلك صاحب البستان ، و عظم أبو عبد الله مبارك في عين سيده ، و زاد قدره عنده وكان لصاحب البستان بنت خطبت كثيراً ، فقال لمبارك : يا مبارك ، من ترى تزوج هذه البنت ؟
فقال : أهل الجاهلية كانوا يزوجون للحسب ، و اليهود للمال ، و النصارى للجمال ، وهذه الأمة للدين.
فأعجبه عقله فذهب فأخبر بها أمها و قال لها : ما أرى لهذه البنت زوجاً غير مبارك !
فتزوجها فجاءت بعبد الله بن المبارك ، فتمت عليه نعمة بركة أبية وأنبته الله نباتاً صالحاً و رباه على عينه ..
علمه :
قد اتفقت جميع المصادر على أنه كان طلّاباً للعلم نادر المثال ، رحل إلى جميع الأقطار التي كانت معروفة بالنشاط العلمي في عصره ..
وفيه يقول عبد الرحمن بن أبي حاتم : سمعت أبي يقول : كان ابن المبارك ربع الدنيا بالرحلة في طلب الحديث ، لم يدع اليمن ولا مصر و لا الشام ولا الجزيرة و البصرة و لا الكوفة .. و قد شهد له أحمد بن حمبل بذلك أيضاً !!
كان ابن المبارك رحمه الله يقول : خصلتان من كانتا فيه نجا : الصدق ، و حب أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ... و قد كان ينشد العلم حيث رآه و يأخذه حيث وجده ، لا يمنعه من ذلك مانع ، كتب عمن هو فوقه ، و عمن هو مثله ، و تجاوز ذلك حتى كتب العلم عمن هو أصغر منه ..
وقد روي أنه مات ابن له فعزاه مجوسي فقال : ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد أسبوع.
فقال بن المبارك : اكتبوا هذه !!
وقد بلغ به ولعه بكتابة العلم مبلغاً جعل الناس يعجبون منه ، فقد قيل له مرة : كم تكتب ؟
قال : لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد !!
وقد عابه قومه على كثرة طلبه للحديث فقالوا : إلى متى تسمع ؟ فقال إلى الممات !!
و عمل عل جمع أربعين حديثا ، و ذلك تطبيقا للحديث النبوي القائل : ( من حفظ على أمتى أربعين حديثاً من أمر دينها بعثه الله تعالى يوم القيامة في زمرة الفقهاء و العلماء )
و من شعره :
يقول في الجهاد في سبيل الله ، أنه أفضل العبادات ، و أنه أليق بالمسلم من العكوف في زاوية المسجد و ترك الثغور مفتوحة أمام العدو ... ومن ذلك ما حدث به محمد بن إبراهيم بن أبى سكينة قال :
أملى علي بن المبارك بطرسوس – ثغر من ثغور الروم – ورقة إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع و سبعين و مائه فيها هذه الأبيات :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا .... لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه .... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتبع خله في باطل .... فخيولنا يوم الصبيحة تتنعب
ريح العبير لكم، و نحن عبيرنا .... رهج السنابك و الغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا .... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في .... أنف امرئ و دخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا .... ليس الشهيد بميت لا يكتب
من أقواله و حكمه :
الدنيا سجن المؤمن ، و أعظم أعماله في السجن الصبر و كظم الغيظ ، وليس للمؤمن في الدنيا دولة ، وإنما دولته في الآخرة !
ليس من الدنيا إلا قوت اليوم فقط
و سئل رحمه الله عن قول لقمان لابنه : ( إن كان الكلام من فضة فإن الصمت ذهب) ، فقال : معناه لو كان الكلام بطاعة الله من فضة ، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب !!
وكان يكثر الجلوس في بيته فقيل له : ألا تستوحش ؟ فقال : كيف أستوحش و أنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ، و أصحابه ؟
وكان يعتزل مجالس المنكر و اغتياب الناس فقيل له : إذا صليت معنا لم لا تجلس معنا ؟
قال : أذهب مع الصحابة و التابعين ..
قيل له : و من أين الصحابة و التابعون ؟
قال : أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم و أعمالهم ، فما أصنع معكم و أنتم تغتابون الناس !
كما كان مستجاب الدعوة ،فقد دعا للحسن بن عيسى و كان نصرانياً : اللهم ارزقه الاسلام ، فاستجاب الله دعوته فيه ..
رؤى الناس في حقه :
قال زكريا بن عدي : رأيت بن المبارك في المنام فقلت : ما فعل الله بك ؟
قال : غفر لي برحلتي في الحديث !
ورؤى الثوري في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : رحمني ..
فقال له : ما حال عبد الله بن المبارك ؟
فقال : هو ممن يلج على ربه كل يوم مرتين ..
هذا ما رآه الصالحون و ( رؤيا المؤمن جزء من ست و أربعين جزءاً من النبوة ) كما يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم .
فرحمة الله و رضي عنه وما أصدق قول الشاعر فيه :
جمال ذي الأرض كانوا في الحياة ، وهم ...... بعد الممات جمال الكتب و السير