[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]في خمسينات القرن المنصرم قال طبيب العائلة لوالدي بأن جدتي المريضة لن تعيش لأكثر من ثلاثة أيام لكنها رحمها الله عاشت خمسة وعشرين عاما أخرى في حين مات طبيبها قبلها بسنوات! مفارقة طريفة تدفعني أحيانا للتساؤل عن السر والحكمة الكامنة وراء العديد من مفارقات الحياة. مثلا لماذا يختلف الناس من حيث الوسامة والصحة والفقر والغنى .. الخ؟ وحتى في الموت يختلفون فترى آجالهم متباينة، صحيح إن الجميع يموتون في النهاية، لكن هناك من يغادر الدنيا في عز قوته وعنفوان شبابه بينما هناك من يعيش حتى يتقوس ظهره ويرى أحفاد أحفاده، وهناك أيضا من يموت أثناء نومه في فراشه الدافئ الوثير بدون علة واضحة في حين يتم شنق بطل قصتنا ثلاث مرات من دون أن يموت .. أليست هذه مفارقة عجيبة!!
"يعلم الله إني بريء" قالها جون لي (John Lee ) بهدوء وبرود حسده عليه جميع الحاضرين في المحكمة بينما كان يخاطب القاضي الذي اصدر عليه للتو حكما بالإعدام شنقا. جريمته الغامضة وملابسات إعدامه المثيرة جعلت من قصته حديث الصحافة في انجلترا في نهاية القرن التاسع عشر، فمن هو جون لي يا ترى وما هي قصته العجيبة؟
ولد عام 1864 في إحدى البلدات الصغيرة الواقعة إلى الجنوب من مدينة ديفون الانجليزية.
خليج باباكومب حيث منزل الآنسة كيز في مراهقته تمكن جون بمساعدة أخته إليزابيث من الحصول على عمل كخادم في منزل فخم كبير يقع على شاطئ خليج باباكومب. إليزابيث كانت أختا غير شقيقة لجون من أمه وكانت تعمل كخادمة لدى مالكة المنزل الآنسة ايما كيز منذ فترة طويلة لذلك لم تمانع هذه الأخيرة في تعيين أخوها جون حين قدمته لها. الآنسة كيز كانت امرأة طيبة من علية القوم في نهاية عقدها السادس من العمر وتعيش لوحدها.
عمل جون كان يتضمن العناية بالحديقة والإسطبلات. وإضافة إليه والى أخته إليزابيث كان هناك خادمتان أخريان في المنزل هما جان و اليزا نيك.
في سن السادسة عشر ترك جون العمل لدى الآنسة كيز والتحق بالأسطول الملكي، لكن أيامه في البحرية لم تدم طويلا إذ سرعان ما تم الاستغناء عنه بسبب عدم انضباطه.
عاد جون أدراجه إلى ديفون وعمل لعدة سنوات كخادم في عدد من فنادق المدينة لكنه كان يتعرض للطرد دائما بسبب يده الطويلة حتى انه أمضى عقوبة قصيرة في السجن بعد أن امسكوا به متلبسا بالسرقة.
بعد أن تقطعت به السبل وفشل في جميع الوظائف التي عمل فيها عاد جون للعمل لدى الآنسة كيز في صيف عام 1884 بعد أن توسطت له أخته إليزابيث. هذه المرة كخادم وساقي. ومرة أخرى لم يستطع جون كبح جماح يده الطويلة فقام بسرقة بعض الحاجيات من منزل الآنسة كيز التي اكتشفت الأمر فعاقبته بقطع راتبه.
بعد منتصف ليلة 15 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1884 تعرضت الآنسة كيز فجأة لهجوم شرس أثناء نزولها السلم من غرفة المطالعة إلى الطابق الأرضي، شخص ما ضربها على رأسها بواسطة قضيب معدني يستعمل لتقليب الرماد في الموقد، وهي وظيفة كان مناطة بجون، ثم أجهز القاتل على العجوز الطيبة بذبحها بواسطة سكين كبيرة كانت تستخدم لتهذيب الأغصان في حديقتها، وأخيرا رش الطابق الأرضي بالكيروسين وأشعل النار قبل أن يفر هاربا.
الحريق في الطابق الأرض أدى إلى استيقاظ الخادمات، في هذه الأثناء هرول جون لي مسرعا نحو المنازل القريبة لطلب النجدة، العجيب هو أن جون اخبر الجيران عن موت السيدة كيز مع انه لم يكن قد رأى جثتها بعد!، ثم عاد مسرعا إلى المنزل الذي كانت النيران تضطرم داخله وقام بإنقاذ الخادمة جان التي كانت محاصرة في غرفتها بالطابق العلوي. أثناء إنقاذها انتبهت الخادمة إلى وجود جرح نازف على يد جون الذي زعم لاحقا أنه جرح يده أثناء كسره لزجاج نافذة الخادمة بينما كان يهم بإخراجها من الغرفة، لكن الشرطة توصلت فيما بعد إلى أن النافذة كسرت من الخارج وليس من الداخل، كما نفت الخادمة مشاهدتها لجون لي وهو يكسر زجاج نافذتها. إضافة إلى ذلك عثرت الشرطة على قنينة كيروسين فارغة عليها آثار دماء في غرفة جون الخاصة داخل المنزل.
تصرفات جون المشبوهة ليلة مقتل الآنسة كيز والجرح الغامض على يده وكذلك شهادة بعض معارفه بأنهم سمعوه يهدد بقتل الآنسة كيز بسبب قطعها لراتبه، كل ذلك أدى إلى اتهامه بالقتل وتقديمه لمحاكمة سريعة لم تستغرق سوى أسبوعين اصدر القاضي في نهايتها حكما بإعدامه شنقا.
كان في منتهى الهدوء في يوم اعدامه في صباح يوم 23 شباط / فبراير عام 1885 تم تقديم آخر وجبة طعام لجون في زنزانته ووقف السجانون متعجبون وهم يشاهدون جون يلتهم فطوره بشهية كبيرة وهو الذي ينتظر إعدامه بعد دقائق معدودة!. لم يكن جون خائفا أو مضطربا ذلك الصباح، مضى مع السجانين إلى غرفة الإعدام كأنه ذاهب إلى نزهة، لم يقاوم أو يصرخ كما يفعل الآخرون ولم يضطروا إلى سحله أو حمله قسرا إلى غرفة الإعدام، لم يفقد جون هدوءه وتماسكه حتى بعد أن لفوا حبل المشنقة حول عنقه.
المشنقة كانت من النوع الذي يقف فيها المحكوم على بوابة معدنية ترتبط بطريقة آلية بقبضة خشبية طويلة يسحبها الجلاد فينفتح الباب نحو الأسفل ويهوي المحكوم عليه إلى غرفة تحت المنصة، في اغلب الأحيان كان المحكوم عليه يموت في الحال حين يصل حبل المشنقة إلى مداه فتلتف الانشوطة بقوة حول عنقه وتكسرها، أما سيء الحظ فقد لا تنكسر عنقه حين يهوي من المنصة فيظل يتخبط ويتلوى لعدة دقائق حتى يختنق تماما وتغادر الروح جسده.
جون وقف فوق منصة المشنقة وبدا متماسكا وهادئا كأن الأمر لا يعنيه!. في تمام الساعة الثامنة صباحا قام الجلاد بسحب القبضة الخشبية التي تؤدي لفتح الباب السفلي لكن لشدة دهشة الرجل فأن جون ظل واقفا مكانه ولم يهوي نحو الأسفل!.
قام الجلاد بأبعاد جون عن المشنقة ثم استدعى ميكانيكي السجن لمعرفة الخلل في الآلة. الميكانيكي كان متأكدا من سلامة الآلة لأنه قام بفحصها عدة مرات في اليوم السابق، ومع هذا قام بفحصها وتجربتها مجددا أمام الجميع وما أن سحب القبضة الخشبية حتى انفتح الباب السفلي على الفور، كرر الميكانيكي العملية عدة مرات حتى اطمئن الجلاد إلى أن الآلة تعمل بصورة جيدة فقام بإيقاف جون مجددا فوق الباب السفلي ولف حبل المشنقة حول عنقه، ومرة أخرى قام الجلاد بسحب القبضة الخشبية لكن جون ظل واقفا مكانه هذه المرة أيضا ولم يتزحزح قيد أنملة!.
هذه المرة قام السجانون بإعادة جون إلى زنزانته ريثما يقوم ميكانيكي السجن بفحص المشنقة بصورة دقيقة لمعرفة مكامن الخلل فيها، هذه العملية استمرت لقرابة الساعة حتى تأكد الرجل بأن الآلة تعمل بصورة طبيعية وقاما بتجربتها عدة مرات.
في الساعة التاسعة والنصف صباحا اصطحب السجانون جون من زنزانته إلى غرفة الإعدام للمرة الثانية، وتارة أخرى قام الجلاد بإيقاف جون فوق الباب السفلي ثم لف الحبل حول عنقه. هذه المرة تمهل الجلاد لبرهة قبل سحب القبضة الخشبية كأنه كان يخشى أن تفشل عملية الإعدام مجددا وهو ما حصل بالضبط عندما سحب الرجل القبضة إذ بقى جون واقفا مكانه بهدوء من دون أن يهوي إلى الأسفل!!.
جميع من شاهدوا ما حدث ذلك اليوم أحسوا برعشة خفيفة تسري في أجسادهم، الجلاد ضرب جبهته بيده وكاد أن يفقد صوابه فيما تراجع السجانون إلى الوراء وهم ينظرون إلى وجوه بعضهم غير مصدقين ما يحدث.
الضابط المكلف بمراقبة تنفيذ الإعدام رفض أن يقف جون على المشنقة مرة أخرى وأمر السجانين بإعادته إلى زنزانته ريثما يقوم بإخبار مدير السجن أولا بتفاصيل ما حدث في ذلك الصباح العجيب.
مدير السجن حضر بنفسه إلى غرفة الإعدام واستمع إلى شهادة الجلاد والسجانين حول ما حدث ثم قام بنفسه بسحب القبضة الخشبية فأنفتح الباب السفلي للمشنقة على الفور. مدير السجن أمر بإيقاف الإعدام مؤقتا ريثما يكتب إلى مراجعه العليا في لندن شارحا لهم ما جرى بالتفصيل ومنتظرا تعليماتهم.
وخلال أيام قليلة وصل الرد من لندن بإلغاء حكم الإعدام الصادر بحق جون لي وتخفيفه إلى عقوبة السجن المؤبد.
منذ ذلك اليوم أصبح جون لي مشهورا في انجلترا بأسم "الرجل الذي لم يستطيعوا شنقه".
من الصور النادرة لجون لي بعد تقدمه بالسن جون لي أمضى عشرون عاما في سجن بورتلاند قبل أن يطلق سراحه في عام 1907. حين خرج من السجن كانت قصته مع المشنقة قد طواها النسيان ولم تعد الصحافة تهتم لأمره كثيرا لذلك فالمعلومات حول ماذا جرى له بعد إطلاق سراحه متضاربة, لكن يبدو أن الرجل تزوج وعاش عمرا مديدا حتى عام 1945 حيث مات ودفن في قبر أصبح هو بحد ذاته لغزا إذ أن شاهد القبر يحتوي على تاريخ الولادة لكن تاريخ الوفاة ظل فارغا.
قصة جون لي لم تنتهي بموته، لسنوات طويلة ثارت العديد من الأسئلة حول ما إذا كان هو قاتل الآنسة كيز الحقيقي؟ أو على الأقل كان يعلم من هو قاتلها؟.
جون نفسه خلال محاكمته وسجنه وتنفيذ إعدامه وحتى أخر يوم في حياته كان يصر على براءته لكنه لم يفصح أبدا عن سر تصرفاته الغريبة في ليلة وقوع الجريمة. هناك من يعتقد أن جون هو القاتل فيما يرى فريق أخر ممن درسوا شخصيته وسيرته بأنه لم يقتل الآنسة كيز لكنه يعلم من هو القاتل، أصحاب الرأي الأخير زعموا أن القاتل الحقيقي كان شخصا يدعى ريجنالد تيمبلر كانت تربطه بإليزابيث أخت جون غير الشقيقة علاقة غير شرعية، ويبدو أن الآنسة كيز اكتشفت بطريقة ما هذه العلاقة الآثمة التي كانت تجري سرا داخل منزلها وهددت بفضحها لذلك قام السيد تيمبلر بقتلها بمساعدة إليزابيث و ربما جون أيضا.
تيمبلر مات بعد عامين فقط على موت الآنسة كيز بسبب إصابته بمرض الزهري @