الإمام الزاهد: الحسن البصري
نسبه :
هو أبو سعيد ، الحسن بن أبي الحسن بن يسار ، كان أبوه مولى لزيد بن ثابت الأنصاري ، وكان يسار من سبي حسان ، سكن المدينة ، وأعتق وتزوج في خلافة عمر رضي الله عنه بأم الحسن وأسمها خيرة، كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة المخزومية .
نشأته :
ولد الحسن رحمه الله لسنتين بقيتا من خلافه عمر رضي الله عنه وذهب به إلى عمر فحنكه ، ولما علمت أم المؤمنين أم سلمة بالخبر أرسلت رسولاً ليحمل إليها الحسن ، وأمه لتقضي نفاسها في بيت أم سلمة رضي الله عنها ، فلما وقعت عينها على الحسن وقع حبه في قلبها ، فقد كان الوليد الصغير قسيمـًا وسيمـًا ، بهي الطلعة ، تام الخلقة ، يملأ عين مجتليه ، ويأسر فؤاد رائيه ، ويسر عين ناظريه ، وسمته أم المؤمنين رضي الله عنها بالحسن ، ولم تكن البشرى لتقتصر على بيت أم سلمة رضي الله عنها فحسب ؛ بل عمت الفرحة دار الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه ، فهو مولى أبيه .
وكان كرم الله على الحسن أن نشأ في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، وكانت أمه تتركه عند أم المؤمنين ، وتذهب لقضاء حوائجها ، فكان الحسن إذا بكى ألقمته أم المؤمنين ثديها ، فيدر عليه لبنـًا بأمر الله ، على الرغم من كبر سنها فضلا عن أنه لم يكن لها ولد وقتها ، فكانت أم سلمة رضي الله عنها أمـًا للحسن من جهتين : الأولى كونها زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي أم له وللمؤمنين ، والثانية كونها أمـًا له من الرضاعة .
ولم يكن الحسن رضي الله عنه قاصرًا في نشأته على بيت أم سلمة رضي الله عنها فحسب ؛ بل كان يدور على بيوت أمهات المؤمنين رضي الله عنهنَّ ، وكان هذا داعيـًا لأن يتخلق الغلام الصغير بأخلاق أصحاب البيوت ، وكان هو يحدث عن نفسه ، ويخبر بأنه كان يصول ويجول في داخل بيوتهنَّ رضي الله عنهنَّ حتى أنه كان ينال سقوف بيوتهنَّ بيديه وهو يقفز فيها قفزًا ...
صفاتة وشمائله
كان الحسن البصري رحمه الله مليح الصورة، بهيا، وكان عظيم الزند قال محمد بن سعد "كان الحسن فقيها، ثقة، حجة، مأمون، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، وسيما". وكان من الشجعان الموصوفين في الحروب، وكان المهلب بن ابي صفرة يقدمهم إلى القتال، وأشترك الحسن في فتح كابور مع عبدالرحمن بن سمرة. قال ابو عمرو بن العلاء "ما رأيت أفصح من الحسن البصري". وفال الغزالي "وكان الحسن البصري أشبه الناس كلاما بكلام الأنبياء، وأقربهم، هديا من الصحابة، وكان غاية الصحابة تتصبب الحكمة فيه.كان الحسن كثير الحزن، عظيم الهيبة، قال أحد الصحابة "ما رأيت أحدا أطول حزنا من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة.أما عن سببب حزنه فيقول الحسن رحمة الله "بحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، وأن يطول حزنه". وكان الحسن البصري يصوم الأيام البيض، والشهر الحرم، والأثنين والخميس
علمه
لقد كان الحسن أعلم أهل عصره، يقول قتادة "ما جمعت علم إلى أحد العلماء إلا وجدت له فضلا عليه، غير أنه إذا أشكل عليه كتب فيه على سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فيها قط فضل الحسن".وكان للحسن مجلسان للعلم: مجلس خاص بمنزله، ومجلس عام في المسجد بتناول فيه الحديث والفقه وعلوم القرآن واللغة وغيرها وكان تلاميذه كثر.رأى الحسن عددا كبيرا من الصحابة وروى عنهم مثل النعمان بن البشير، وجابر بن عبدالله، وابن العباس، وأنس رضوان الله عليهم، ونتيجة لما سبق فقد لقبه عمر بن عبد العزيز بسيد التابعين حيث يقول "لقد وليت قضاء البصرة سيد التابعين".
مكانته العلمية وأسبابها :
كان رضي الله عنه جامعـًا، عالمـًا ، فقيهـًا ، ثقة ، حجة مأمونـًا فصيحـًا، ويعد الحسن رضي الله عنه سيد أهل زمانه علمـًا وعملاً، وأشدهم فصاحة وبيانـًا، وقد برع ـ رحمه الله ـ في الوعظ والتفسير براعة لا تفاق، حتى كان فارس الميدان، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها :
نشأته في بيت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، فقد رضع من ثديها، كما رضع منها علمـًا وفقهـًا . قربه من بيوت أمهات المؤمنين ، فكان ذلك داعيـًا لأن يتعلم منهنَّ .
لزومه حلقة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ، فقد أخذ عنه الفقه والحديث والتفسير والقراءات واللغة . ولوعه بأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فقد راعه فيه صلابته في الدين وإحسانه في العبادة، وزهده في الدنيا، وقوته في الفصاحة والبيان
زهده :
عاش الحسن رضي الله عنه دنياه غير آبه بها ، غير مكترث لها ، لا يشغله زخرفها ولا يغويه مالها ، فكان نعم العبد الصالح ، حليف الخوف والحزن ، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، فقيهـًا زاهدًا، مشمرًا عابدًا، وفي هذا يقول : إن المؤمن يصبح حزينـًا ويمسي حزينـًا وينقلب باليقين في الحزن، ويكفيه ما يكفي العنيزة، الكف من التمر والشربة من الماء، وقال عنه إبراهيم بن عيسى اليشكري : ما رأيت أحدًا أطول حزنـًا من الحسن، وما رأيته قط إلا حسبته حديث عهد بمصيبة،
وقال عنه علقمة بن مرثد : انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين ، فمنهم الحسن . ولقد شهد له أهل البصرة بذلك، حدث خالد بن صفوان، وكان من فصحاء العرب، فقال لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال لي : أخبرني عن حسن البصرة ،؟؟
فقال خالد : أنا خيرٌ من يخبرك عنه بعلم، فأنا جاره في بيته وجليسه في مجلسه وأعلم أهل البصرة به، إنه امرؤٌ سريرته كعلانيته ، وقوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به ، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له، ولقد رأيته مستغنيـًا عن الناس زاهدًا بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه طالبين ما عنده، فقال مسلمة : حسبك يا خالد حسبك كيف يضل قوم فيهم مثل هذا ؟!!)
من روى عنهم :
وقد روى الحسن رضي الله عنه عن عدد كبير من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هؤلاء :عمران بن حصين ، والمغيرة ، وعبد الرحمن بن سمرة ، والنعمان بن بشير ، وجابر ، وابن عباس ، وابن سريع ، وأنس ، كما رأى عثمان وطلحة، وكان يحدث هو فيقول أنه أدرك سبعين بدريـًا .ما قيل فيه : قال أبو بردة : ما رأيت أحدًا أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم منه
وقال أبو قتادة : ما رأيت أحدًا أشبه رأيـًا بعمر منه .
وقال قتادة : ما جمعت علم الحسن إلى علم أحد من العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه ، وما جالست فقيهـًا قط إلا رأيت فضل الحسن .
وقال الأشعث : ما لقيت أحدًا بعد الحسن إلا صغر في عيني .
وقال عطاء : ذاك إمام ضخم يقتدى به .
من كلامه رضي الله عنه :
كان الحسن رضي الله عنه يتكلم بالحكمة ، قال أبو جعفر الباكر : إن كلامه أشبه بكلام الأنبياء ، وقال حماد بن زيد : سمعت أيوب يقول : كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر ، وكان من كلامه :
-ابن آدم : إنما أنت أيام كلما ذهب يوم ذهب بعضك .
- فضح الموت الدنيا ، فلم يترك فيها لذي لب فرحـًا .
- ضحك المؤمن غفلة من قلبه .
الحسن والحكام
لما كان الحسن رضي الله عنه قد طلّق الدنيا برمتها ، وقد رخصت في عينه، فقد هان عنده كل شيء، فلم يكن يعبأ بحاكم ظالم، ولا أمير غاشم، و لا ذي سلطة متكبر، بل ما كان يخشى في الله لومة لائم، ومن ذلك أن الحجاج كان قد بنى لنفسه قصرًا في " واسط " فلما فرغ منه نادى في الناس أن يخرجوا للفرجة عليه، وللدعاء له، فخرج الحسن، ولكن لا للدعاء، بل انتهازًا للفرصة حتى يذكر الناس بالله ويعظ الحجاج بالآخرة، فكان مما قال :
ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد مقتوه، وأن أهل الأرض غروه، ولما حذره أحد السامعين من بطش الحجاج رد عليه الحسن قائـلاً :
لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وفي اليوم التالي وجه الحجاج إلى الحسن بعض شرطه ثم أمر بالسيف والنطع( البساط من الجلد يوضع تحت المحكوم عليه بقطع الرأس)، فلما جاء الحسن أقبل على الحجاج وعليه عزة المسلم، وجلال المسلم، ووقار الداعية إلى الله، وأخذ يحرك شفتيه يدندن بكلام ويتمتم ببعض الحروف، فلما رآه الحجاج هابه أشد الهيبة، وما زال يقربه حتى أجلسه على فراشه، وأخذ يسأله في أمور الدين، ثم قال له :
أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ثم طيبه وودعه، فتعجب الناس من صنيع الحجاج فقالوا : يا أبا سعيد ماذا قلت حتى فعل الحجاج ما فعل؟ وقد كان أحضر السيف والنطع، فقال الحسن: لقد قلت :
((يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته بردًا وسلامـًا علي كما جعلت النار بردًا وسلامـًا على إبراهيم ))
.وكتب إلى عمر بن عبد العزيز لما ولي كتابـًا جاء فيه: إن الدنيا دار مخيـفة ، إنما أهبط آدم من الجنة إليها عقوبة ، واعلم أن صرعتها ليست كالصرعة، من أكرمها يهن، ولها في كل حين قتيل، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء خيفة طول البلاء.
من مواقف الحسن البصري
عاش الحسن رحمه الله الشطر الأكبر من حياتة في دولة بني أمية، وكان موقفه متحفظاً على الأحداث السياسية، وخاصة ما جرّ إلى الفتنة وسفك الدماء، حيث لم يخرج مع أي ثورة مسلحة ولو كانت باسم الإسلام، وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى والإضطراب، وفوضى ساعة يرتكب فيها من المظالم ما لا يرتكب في استبداد سنين، ويؤدي الخروج إلى طمع الأعداء في
ـالمسلمين، ولأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، وإن شق على دراية إصلاح الحاكم فما زال لإصلاح المحكومين مُيسراً. أما إن كان الحاكم ورعاً مطبقاً لأحكام الله مثل عُمر بن عبد العزيز، فإن الحسن ينصح له، ويقبل القضاء في عهده ليعينه على أداء مهمته.
كتب الحسن لعُمر بن عبد العزيز ينصحه فقال "فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد أئتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبنذ المال وشرد العيال، فأفقر أهله وبدد ماله".ولقد عنف الحسن البصري طلبة العلم الشرعي الذين يجعلون علمهم وسيلة للاستجداء فقال لهم "والله لو زهدتم فيما عندهم، لرغبوا فيما عندكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم، فزهدوا فيكم".ومن أقواله في المال "بئس الرفيقان، الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك".
مواعظ الحسن البصري
من مواعظ الحسن البصري رضي الله عنه كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز:
"إعلم أنّ التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيرا يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزا، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها وغرت بغرورها وقتلت أهلها بأملها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة، العيون إليها ناظرة، والنفوس لها عاشقة، والقلوب إليها والهة ولألبابها دامغة وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي مُعتبر، ولا الآخر بما رأى من الأول مُزدجر، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع.
فاحذرها الحذر كله فإنها مثل الحية لين ملمسها وسمها يقتل، فاعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها، وأيقنت به من فراقها، وشدد ما اشتد منها الرخاء ما يصيبك، وكن ما تكون فيها احذر ما تكون لها فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له، أشخصته عنها بمكروه، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلا عليه انقلبت به، فالسار فيها غار، والنافع فيها غدا خار، وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، وءاخر الحياة فيها الضعف والوهن، فانظر اليها نظر الزاهد المفارق ولا تنظر نظر العاشق الوامق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن وتفجع الغرور الآمن، لا يرجع ما تولى منها فأدبر ولا يدري ما هو ءات فيها ينتظر".
وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء).
فقال: هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطعمتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
جاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك. ...
وفاته رضي الله عنه
في العام العاشر بعد المائة الأولى وفي غرة رجب ليلة الجمعة وافقت المنية الحسن رضي الله عنه ،فلما شاع الخبر بين الناس ارتجت البصرة كلها رجـًا لموته رضي الله عنه ، فغسل وكفن ، وصلى عليه في الجامع الذي قضى عمره فيه ؛داعيـًا ومعلمـًا وواعظـًا ، ثم تبع الناس جنازته بعد صلاة الجمعة ، فاشتغل الناس في دفنه ولم تقم صلاة العصر في البصرة لانشغال الناس بدفنه.
ربي إني لك عدت :: من سراب فيه تهت
وعلى وجهي شظايا :: ندم في انتهيت
وكهوف من خطايا :: تحتها نار وصمت
فإذا أبكي أرها :: أدمعاً مما بكيت