إن ديننا دين يسر لا دين مشقة وحرج، يضع لكل حالة ما يناسبها من الأحكام مما به تتحقق المصلحة وتنتفي المشقة، ومن ذلك ما شرعه الله في حالة الوضوء، إذا كان على شيء من أعضاء المتوضئ حائل يشق نزعه ويحتاج إلى بقائه: إما لوقاية الرجلين كالخفين ونحوهما، أو لوقاية الرأس كالعمامة، وإما لوقاية جرح ونحوه كالجبيرة ونحوها؛ فإن الشارع رخص للمتوضئ أن يمسح على هذه الحوائل، ويكتفي بذلك عن نزعها وغسل ما تحتها؛ تخفيفا منه سبحانه وتعالى على عباده، ودفعا للحرج عنهم.
فأما مسح الخفين أو ما يقوم مقامهما من الجوربين والاكتفاء به عن غسل الرجلين؛ فهو ثابت بالأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة في مسحه صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، وأمره بذلك، وترخيصه فيه.
قال الحسن: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين. وقال النووي: روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة وقال الإمام أحمد: ليس في نفسي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن المبارك وغيره: ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف، هو جائز ونقل ابن المنذر وغيره إجماع العلماء على جوازه، واتفق عليه أهل السنة والجماعة؛ بخلاف المبتدعة الذين لا يرون جوازه.
وحكم المسح على الخفين: أنه رخصة، فعله أفضل من نزع الخفين وغسل الرجلين؛ أخذا برخصة الله عز وجل، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفة للمبتدعة، والمسح يرفع الحدث عما تحت الممسوح، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلف ضد حاله التي عليها قدره، بل إن كانتا في الخفين؛ مسح على الخفين، وإن كانتا مكشوفتين؛ غسل القدمين؛ فلا يشرع لبس الخف ليمسح عليه.
ومدة المسح على الخفين بالنسبة للمقيم ومن سفره لا يبيح له القصر يوم وليلة، وبالنسبة لمسافر سفرا يبيح له القصر ثلاثة أيام بلياليها؛ رواه مسلم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوم وليلة.
وابتداء المدة في الحالتين يكون من الحدث بعد اللبس؛ لأن الحدث هو الموجب للوضوء، ولأن جواز المسح يبتدئ من الحدث، فيكون ابتداء المدة من أول جواز المسح، ومن العلماء من يرى أن ابتداء المدة يكون من المسح بعد الحدث.
شروط المسح على الخفين ونحوهما:
1- يشترط للمسح على الخفين وما يقوم مقامهما من الجوارب ونحوها أن يكون الإنسان حال لبسهما على طهارة من الحدث؛ لما في " الصحيحين " وغيرهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أراد نزع خفيه وهو يتوضأ: دعهما؛ فإني أدخلتهما طاهرتين وحديث: أمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر وهذا واضح الدلالة على اشتراط الطهارة عند اللبس للخفين، فلو كان حال لبسهما محدثا؛ لم يجز المسح عليهما.
2- ويشترط أن يكون الخف ونحوه مباحا، فإن كان مغصوبا أو حريرا بالنسبة للرجل؛ لم يجز المسح عليه؛ لأن المحرم لا تستباح به الرخصة.
3- ويشترط أن يكون الخف ونحوه ساترا للرجل؛ فلا يمسح عليه إذا لم يكن ضافيا مغطيا لما يجب غسله؛ بأن كان نازلا عن الكعب أو كان ضافيا لكنه لا يستر الرجل؛ لصفائه أو خفته؛ كجورب غير صفيق؛ فلا يمسح على ذلك كله؛ لعدم ستره.
ويمسح على ما يقوم مقام الخفين؛ فيجوز المسح على الجورب الصفيق الذي يستر الرجل من صوف أو غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين، رواه أحمد وغيره وصححه الترمذي، ويستمر المسح عليه إلى تمام المدة؛ دون ما يلبس فوقه من خف أو نعل ونحوه، ولا تأثير لتكرار خلعه ولبسه إذا كان قد بدأ المسح على الجورب.
ويجوز المسح على العمامة بشرطين:
أحدهما: تكون ساترة لما لم تجر العادة بكشفه من الرأس.
الشرط الثاني: أن تكون العمامة محنكة، وهي التي يدار منها تحت الحنك دور فأكثر، أو تكون ذات ذؤابة، وهي التي يرخى طرفها من الخلف؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على العمامة بأحاديث أخرجها غير واحد من الأئمة، وقال عمر: من لم يطهره المسح على العمامة، فلا طهره الله.
وإنما يجوز المسح على الخفين والعمامة في الطهارة من الحدث الأصغر، وأما الحدث الأكبر؛ فلا يمسح على شيء من ذلك فيه، بل يجب غسل ما تحتهما. ويمسح على الجبيرة، وهي أعواد ونحوها تربط على الكسر، ويمسح على الضماد الذي يكون على الجرح، وكذلك يمسح على اللصوق الذي يجعل على القروح، كل هذه الأشياء يمسح عليها؛ بشرط أن تكون على قدر الحاجة؛ بحيث تكون على الكسر أو الجرح وما قرب هنه مما لا بد من وضعها عليه لتؤدي مهمتها، فإن تجاوزت قدر الحاجة؛ لزمه نزع ما زاد عن الحاجة.
ويجوز المسح على الجبيرة ونحوها في الحدث الأصغر والأكبر، وليس للمسح عليها وقت محدد، بل يمسح عليها إلى نزعها أو برء ما تحتها؛ لأن مسحها لأجل الضرورة إليها، فيتقدر بقدر الضرورة.
والدليل على مسح الجبيرة حديث جابر رضي الله عنه؛ قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل، فمات، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أخبر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها رواه أبو داود وابن ماجه، وصححها ابن السكن.
محل المسح من هذه الحوائل:
يمسح ظاهر الخف والجورب، ويمسح أكثر العمامة، ويختص ذلك بدوائرها، ويمسح على جميعا لجبيرة. وصفة المسح على الخفين أن يضع أصابع يديه مبلولتين بالماء على أصابع رجليه ثم يمرهما إلى ساقه، يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى، والرجل اليسرى باليد اليسرى، ويفرج أصابعه إذا مسح، ولا يكرر المسح.وفقنا الله جميعا للعلم النافع والعمل الصالح