المذهب الرديء..الليبراليه
بسم الله الرحمن الرحيم
الليبرالية... المذهب الرديء
أ. أحمد مصطفى عبدالحليم
بسم الله الرحمن الرحيم
كان لتَفرِيط بعضٍ من المسلمين في تعاليم دِينهم أثَرٌ كبيرٌ في أنْ توجَّه إلى مَذاهبَ ونظريَّاتٍ غربيَّة، مع تفاوُت هذه النظريَّات في صلاحيَّتها لأنْ يَحْيَا بها الناس، فضلاً عن أنْ تكون صالحةً لكلِّ زمان ومكان، وترَك هؤلاء المساكينُ كنزًا ثمينًا - لو عرَفُوه وعقَلُوه - وَراءَ ظُهورهم كأنهم لا يَعقِلون!
ومن هذه المذاهب مَذهبٌ رَدِيءٌ فاسدٌ يُسمَّى "الليبراليَّة"، ولعلَّه طرَق سمعَك ولاحَ أمامَ ناظرَيْك كثيرًا هذا المصطلحُ الفضفاض، دون أنْ تقفَ على تعريفٍ ووَصْفٍ دقيقٍ ومحدَّد له، هذا ما دفعَنِي للتَّفتيش عن هذا المصطلح؛ حتى أقفَ على حقيقته وأساسه.
لتعلمْ - أخي الكريم - أنَّ تعريفَ الليبراليَّة تعريفًا دقيقًا مُختلَفٌ فيه اختِلافًا بيِّنًا؛ بَيْدَ أنَّ هناك قدرًا متَّفقًا عليه بين مَن يعتنقون هذا المذهب الرَّديء، وهذا القَدْرُ هو "الحريَّة"؛ حيث يكونُ مبدأ الحريَّة وتحقيق الفرد لذاتِه هو نُقطة الانطِلاق في الفِكر الليبرالي بكلِّ فِرَقِه، وفي كلِّ المجالات المختلفة.
يقول الأستاذ عبدالله العروي: "إنَّ الليبراليَّة تعتَبِرُ الحريَّةَ المبدأَ والمنتهَى، الباعثَ والهدف، الأصلَ والنتيجة في حَياة الإنسان، وهي المنظومة الفكريَّة الوحيدة التي لا تطمعُ في شيءٍ سِوى وصْف النَّشاط البشري الحرِّ وشرح أوجُهِه والتَّعلِيق عليه"
وجاء في موسوعة ويكيبيديا: "اشتُقَّت كلمة ليبراليَّة من ليبر liber؛ وهي كلمةٌ لاتينيَّة تعني (الحر)، وهي في حقيقتها مذهبٌ أو حركةُ وعيٍ اجتماعي سياسي داخل المجتمع، تهدفُ لتحرير الإنسان كفردٍ وكجماعةٍ من القيود السلطويَّة الثلاثة (السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والثقافيَّة)، وقد تتحرَّك وفْق أخلاقِ وقِيَمِ المجتمع الذي يتبنَّاها، تتكيَّف الليبراليَّة حسَب ظُروف كلِّ مجتمع؛ إذ تختلفُ من مجتمعٍ إلى مجتمعٍ، الليبراليَّة أيضًا مذهبٌ سياسي واقتصادي معًا؛ ففي السياسة تعني تلك الفلسفة التي تقومُ على استقلال الفرد والتِزام الحريَّات الشخصيَّة وحماية الحريَّات السياسيَّة والمدنيَّة"
فالليبراليَّة بمعناها الدَّقيق تعني: أنْ يكون الإنسان حُرًّا حريَّة كاملةً في مجالات (السياسة والاقتصاد والثقافة)، وهذه الحريَّة بلا قيد ولا حد، ولو وُجِدَ قيدٌ يقيِّده أو حدٌّ يحدُّه، يكون هذا القيد أو الحد نابعًا منه هو كإنسانٍ، لا من شيءٍ خارجيٍّ عنه؛ من دِينٍ، أو شَرائعَ سماويَّةٍ، أو خُلق قَوِيم؛ وهذا يعني: انفِكاك الإنسان عن تعاليم دِينه انفِكاكًا كاملاً باتًّا.
فإذا فقهنا هذا المعنى لليبراليَّة جيدًا، عَلِمنا أنها تَعنِي أنْ يتحرَّر الإنسان من رِبقة أيِّ شيء يحدُّ تحرُّرَه - بمفهومهم - من دِين أو شرْع.
وإذا كان قد تقرَّر لدَيْنا - معشرَ المسلمين - أنَّ الإنسان ما خُلِق إلاَّ لشيءٍ واحدٍ، وهو العبوديَّة؛ كما قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
والعبوديَّة هي أصلُ دِين الإسلام وأساسه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: "إنَّ الإسلام هو الاستسلام، وهو يتضمَّن الخضوعَ لله وحدَه، والانقياد له، والعبوديَّة لله وحده"
من هنا نقفُ على حقيقةٍ مهمَّة في هذا الصَّدد، وهي: أنَّ الليبراليَّة تَقِفُ في مُقابَلة الإسلام موقفَ الضدِّ والنِّدِّ والمقابِل؛ إذًا فكيف نرى بعضًا من بني جِلدتنا ممَّن ينتمون - ادِّعاءً - إلى هذا الدِّين الحنيف يعتَنِقون هذا المذهب المُفسِد الرَّديء، ويُفكِّرون هذا التفكير الفاسد؟!
وقد ظهَرتِ الليبراليَّة أوَّل ما ظهرت في أوروبا في الأجواء القاسية التي عاشَ فيها شعبُ أوروبا تحت سُلطة النِّظام الإقطاعي، الذي أفسَد البلادَ والعبادَ، والماءَ والهواءَ، ناهيك عن الفَساد الدِّيني الذي استغلَّه الكنيسة والسادة والملوك في ظُلمهم لِمَن تحتَهم من المحكومين.
قال الشيخ سليمان الخراشي: "كان للانحِراف الدِّيني والاستبدادِ السياسي دورٌ رئيسي في وُجود الفِكر الليبرالي؛ لأنَّه استَوْعَبَ المجتمع الأوروبي، وكبَتَ حريَّةَ أفرادِه إلى درجة العُبوديَّة التامَّة، وهذا الطُّغيان على الحريَّة ولَّد ردَّة فعلٍ، وهو أمرٌ طبيعي، وسنَّة كونيَّة جاريَّة"
في هذه الأجواء المشحونة بالكُره والعَداء لكلٍّ من السُّلطة الدينيَّة (متمثِّلة في الكنيسة)، والسُّلطة السياسيَّة (متمثِّلة في الملوك والسادة، ومعهم الكنيسة أيضًا)، والسُّلطة الاقتصاديَّة - نشَأ الفِكر الليبرالي مُتخلِّصًا من قُيود السُّلطات الثلاث (الدينيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة).
وكانت الثورات الأوروبيَّة التي ثارَتْ للتخلُّص من هذا الظُّلم والبَغيِ والعُدوان على الناس، وأكبر وأعظم هذه الثورات أثرًا سيئًا في بقيَّة الشُّعوب الثورةُ الفرنسيَّة (الثورة الصناعيَّة الكُبرَى 1889م).
وقد تسرَّبتِ الليبراليَّة في البلاد الإسلاميَّة في بداية أمْرها من خِلال الجمعيَّات السِّرِّيَّة التي كوَّنَها أفرادٌ تشبَّعوا بالفِكر الغربي، وتديَّنوا به وبِحَضارته الماديَّة، وساعَد هذه الحركاتِ على عمَلِها الضَّعفُ الذي كان بجسَدِ الأمَّة؛ جرَّاء الاستعمار الغربي وأذْنابه من دُعاة التَّغريب والعَلمَنة، وكذا الانحِرافُ العقَديُّ والاستبدادُ السياسي والجُمود والتَّقليد الذي ابتُلِيَتْ به الأمَّة - وما زالَتْ تُعانِي آثارَه حتى الآن - وهذه العَوامِلُ أثَّرت وكانت عواملَ مُساعِدةً لدُخول وتسرُّب هذا المذهب الفاسد إلى البلاد الإسلاميَّة
ونشيرُ هنا إلى عاملٍ من أهمِّ تلك العَوامِل التي مَكَّنتْ هذا الفِكرَ الرَّدِيء من الوُصول إلى مَناصِب حسَّاسة في الدَّوْلَة، وهو الطابور الخامسُ الذي ترَكَه الاستعمارُ في بلادنا بعدَما غادَرَها مَذؤُومًا مَدحُورًا، ضامنًا ببَقاء هذا الجِيل عالي الصوتِ تمكُّنَه من غرْس كُلِّ ما يريدُ غرسَه في أدمِغَة وقُلوبِ الناس.
وأنا آتيكَ بكلامٍ من رُؤوس أقلام طَلِيعة هؤلاء الحُثالة الذين استَخدَمَهُم الاستعمارُ والغرْب كأدواتٍ لمحاولة غرْس هذا المذهب في الناس.
قال عبدالرحمن الكَواكبي: "دَعُونا نُدبِّر حياتَنا الدُّنيا ونجعَل الأديان تحكُمُ الأخرى فقط، دَعُونا نجتَمِع على كلماتٍ سواء؛ ألا وهي: فلْتَحْيَ الأمَّة، فلْيَحيَ الوطنُ، فلْنَحيَ طُلَقاء أعزَّاء"
ويقول حسن حنفي: "نشَأتِ العلمانيَّة استِردادًا للإنسان ولحريَّته في السُّلوك والتعبير، وحريَّته في الفهم والإدراك، ورفضًا لكلِّ أشكال الوصاية عليه ولأيِّ سُلطةٍ فوقيَّة إلا سُلطة العقل والضمير، العلمانيَّة إذًا هي أساسُ الوحي، فالوحي علمانيٌّ في جَوهَرِه، والدِّينيَّة طارئةٌ عليه من صُنع التاريخ"
ويقول أحمد لطفي السيد: "خُلِقتْ نُفوسُنا حرَّة، طبَعَها الله على الحريَّة، فحريَّتنا هي نحن، هي ذاتنا ومفهومُ ذاتِنا، هي أنَّ الإنسان إنسانٌ، وما حريَّتُنا إلا وجودنا، وما وجودُنا إلا الحريَّة"
وانظُر وتأمَّل تأصيلَ طه حسين لمنهج النهضة - في نظَرِه - قائلاً: "هي أنْ نسيرَ سَيْرَ الأوربيِّين ونسلُكَ طريقتهم؛ لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شُرَكاء في الحضارة؛ خيرها وشرِّها، حُلوها ومرِّها، ما يُحَبُّ منها وما يُعاب.
ويُؤكِّد ذلك قائلاً: "نريدُ أنْ نتَّصل بأوروبا اتِّصالاً يَزدادُ قوَّة من يومٍ إلى يومٍ؛ حتى نُصبِح جُزءًا منها لفظًا ومعنى، حقيقةً وشكلاً"
أرأيت كيف فَكَّرَ هؤلاء الخلق؟! لتعلم يا عبدَ الله أنَّ هؤلاء لا يُرِيدون الخيرَ لنا أبدًا؛ فكيف يُريدون لنا الخيرَ وهم أبعَدُ الناس عنه؟!
ولتعلمْ أنَّ الليبراليين الجدُد المعاصرين ليسوا بأهدى سبيلاً منهم؛ فهم أبناؤهم وتلاميذهم، وعليهم تعلَّموا وتربَّوا، رضَعُوا لبان الغرْب وتربَّوْا على مَوائِدهم، فتَراهُم تعلَّموا في مَدارِسهم، وتخرَّجوا في جامعاتهم، وعبُّوا من مَعِينهم، وإذا أردت الوقوفَ على أقوال هؤلاء فأدِرْ عينَيْك في أيِّ قناة فضائيَّة من قَنواتهم الكثيرة، أو جريدةٍ من جرائدهم العديدة، لترى وتقرأ كلامَهم السَّمِجَ الفاسد المُفسِد.
فنسأل الله أنْ يَكفِي أمَّةَ الإسلام شرَّهم، وأنْ يُجنِّبنا زللَهم، وأنْ يحفَظَنا من مَكرِهم بمنِّه وكرَمِه.