كان الفتى سعيد بن عامر الجمحي واحداً من الجموع الغفيرة التي شهدت مصرع الصحابي خبيب بن عدي ، بعد أن ظفرت به قريش غدراً..
ولما وصلت هذه الجموع الحاشدة بأسيرها إلى المكان المعدِّ لقتله ؛ وقف سعيد بن عامر بقامته الممدودة يُطِل على خبيب وهو يقدَّم إلى خشبة الصَّلب ، وسمع صوته الثابت يقول :
" إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا " . ثم نظر إليه وهو يستقبل الكعبة، ويصلي ركعتين ، ثم رآه يقبل على زعماء القوم وهو يقول :
" والله لو لا أن تظنوا أني أطلت الصلاة جزعاً من الموت لاستكثرت منها " .
ثم رأى سعيد بن عامر كيف قطَّع قومه خبيباً قطعة قطعة ، ولقد سمعه يدعو قريش فيقول :
" اللهمَّ أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ، ولا تغادر منهم احداً " .
نسيت قريش هذا الحدث ، ولكن سعيد بن عامر لم ينسه ، كان يراه في حلمه إذا نام ، ويراه بخياله وهو يستيقظ ، ويتصوره وهو يصلي ركعتيه الهادئتين أمام خشبة الصَّلب ، تعلَّم سعيد بن عامر من خبيب ما لم يكن يعلم :
ـ علَّمه أن الحياة عقيدة وجهاد في سبيل العقيدة حتى الموت .
ـ علَّمه أن الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب .
عند ذلك شرح الله صدره للإسلام ؛ فقام في ملأ من الناس ، وأعلن براءته من آثام قريش ، وخَلْعه لأصنامها وأوثانها ، ودخوله في دين الله .
هاجر سعيد بن عامر المدينة ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وشهد معه عدة غزوات
*دخل على عمر بن الخطاب في أول خلافته فقال : " يا عمر أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله ، وألا يخالف قولك فعلك ، فإن خير القول ما صدَّقه العمل " .
عند ذلك دعا عمر بن الخطاب سعيداً إلى مساعدته ، وقال : " يا سعيد إنا مولوك على حمص
فقال سعيد : " يا عمر نشدتك الله ألا تفتني " .
فغضب عمر وقال : " ويحكم وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني ، والله لا أَدَعُكَ " .
* ثم مضى سعيد إلى حمص منفذاً أمر عمر ، وما هي إلا أيام قلائل حتى وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص ، فقال لهم : "اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسد حاجتهم " .
فرفعوا كتاباً فإذا فيه سعيد بن عامر !
ـ قال عمر : مَن سعيد بن عامر ؟
ـ قالوا : أميرنا ، والله إنه لتمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار . فبكى عمر ، ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته .
فلما وُضع المال بين يدي سعيد جعل يقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " . كأنما أصابته مصيبة ، فأخذ الدنانير ثم وزعها على فقراء المسلمين .
* لم يمضِ وقت طويل حتى أتى عمر بن الخطاب ديار الشام يتفقد أحوالها ، فلما نزل بحمص لقيه أهله للسلام عليه ، فقال : " كيف وجدتم أميركم ؟ " . فشكوا إليه أربعاً من أفعاله ، فجمع عمر بينهم وبينه ، وقال لهم : " ما تشكون منه ؟ " .
ـ قالوا : لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار .
ـ قال : فما تقول يا سعيد ؟
ـ قال : إنه ليس لأهلي خادم ، فأقوم كل صباح فأعجن لهم عجينهم ، ثم أخبزه لهم ، ثم أتوضَّأ وأخرج للناس .
ـ قال عمر : وما تشكون أيضاً ؟
ـ قالوا : إنه لا يجيب أحداً بليل .
ـ قال : فما تقول يا سعيد ؟
ـ قال : لقد جعلتُ النهار لهم ، والليل لله عزَّ وجل .
ـ قال عمر : وما تشكون منه أيضاً ؟
ـ قالوا : لا يخرج إلينا يوماً في الشهر .
ـ قال : وما هذا يا سعيد ؟
ـ قال : ليس عندي ثياب غير التي عليَّ ، فأنا أغسلها مرة في الشهر ، وأنتظرها حتى تجف ، ثم أخرج إليهم في آخر النهار .
ـ قال عمر : وما تشكون منه أيضاً ؟
ـ قالوا : تصيبه من حين إلى آخر غشية فيغيب عمن في مجلسه .
ـ قال : وما هذا يا سعيد ؟
ـ قال : شهدتُ مصرع خبيب بن عدي وأنا مشرك ، ورأيت قريشاً تقطع جسده ، وهي تقول :
" أتحب أن يكون محمد مكانك ؟ فيقول : " واللهِ ما أحب أن أكون آمناً في أهلي وولدي ، وأن محمداً تشوكه شوكة ! " . وإني والله ما ذكرتُ ذلك اليوم ، وكيف أني تركت نصرته ، إلا ظننتُ أن الله لا يَغفر لي ، فأصابتني تلك الغشية .
* عند ذلك قال عمر : الحمد لله الذي لم يخيب ظني به .
* ثم بعث له بألف دينار يستعين بها على حاجته ، فلما رأتها زوجته قالت له : الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك ، اشتر لنا مؤنة واستأجر لنا خادما فقال لها : وهل لك فيما هو خير من ذلك ؟ قالت : وما ذاك.؟!
قال : ندفعها إلى من يأتينا بها ، ونحن أحوج ما نكون إليها.
قالت : وما ذاك؟!
قال : نقرضها الله قرضا حسنا.
قالت : نعم وجزيت خيرا.
فما غادر مجلسه الذي هو فيه حتى جعل الدنانير في صرر ، وقال لواحد من أهله : انطلق بها إلى أرملة فلان ، وإلى أيتام فلان ، وإلى مساكين فلان ...
رضي الله عن سعيد بن عامر الجمحي فقد كان من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ..
و كان تلميذاً نجيباً ، تخرَّج في مدرسة الإسلام ، على يدي محمد صلى الله عليه وسلَّم
__________________