كانت غزوة بدر الكبرى بتوقيتها وظروفها وميزان القوى فيها إيذاناً ببزوغ القوة الإسلامية الناشئة وتأكيداً لانتصار الدعوة وقوة العزيمة حتى وإن كان الكفار أكثر عدداً وأقوى عدة وعتاداً. وكانت تأكيداً بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم. ذلك أن المسلمين من المهاجرين والأنصار وهم تحت راية التوحيد وتحت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم انتصروا على أعدائهم نصراً مؤزراً رغم أن هؤلاء الأعداء كانوا يفوقونهم عدداً وعدة وعتادا.
وكان هذا النصر مصداقاً لقول الله تعالى: “يأ أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”(1)، ونصر الله هو الانتصار لدينه والدفاع عن دعوته. وطاعة نبيه. وقد أعد النبي صلى الله عليه وسلم عدته وشحذ همم المسلمين وبث فيهم روح الفداء وعزيمة النصر. وشاورهم في الأمر ثم توكل على الله فكان نصر الله لقوله سبحانه وتعالى: “وكان حقا علينا نصر المؤمنين” (2).
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد اختبر المسلمين بالنصر في غزوة بدر فقد اختبرهم بالهزيمة في أحد ليعتبروا ويتعلموا ويلتزموا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ففي غزوة أحد دان لهم النصر فاغتروا وطمعوا وشغلتهم المغانم المادية والأطماع الدنيوية فتركوا مواقعهم فمال عليهم الكفار ميلة واحدة وأصابوا النبي صلى الله عليه وسلم.
إن النبي صلى الله عليه وسلم حين استقرت له الأمور في المدينة المنورة لم يستكن ويهدأ ويعتقد أن وجوده والمهاجرين في المدينة هو نهاية المطاف. بل كانت المدينة نقطة انطلاق للدعوة. وبدأ عليه الصلاة والسلام يرسل الرسل ويبعث الوفود والسرايا ويقود بنفسه الغزوات. وكان عدد غزوات الرسول التي خرج فيها بنفسه غازياً سبعا وعشرين. وقد قاتل بنفسه في تسع منها هي: بدر وأحد والمريسية والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف. وبلغ عدد بعوثه أو سراياه سبعاً وأربعين. وقيل بل نحوا من ستين. وفي اصطلاح الرواة وأصحاب السير أن الغزوة هي الحرب التي يحضرها الرسول بنفسه. أما البعثة أو السرية فإنه يرسل فيها طائفة من أصحابه. وأول آية نزلت في الإذن بالقتال قوله تعالى: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير”(3). ونزل بعدها: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله”(4). أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه. وحتى يعبد الله ولا يعبد سواه. فغزا الرسول وبعث البعوث والسرايا حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً (5).
غزوة أحد
وإذا كانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت في السنة الثانية للهجرة فإن ما لقيه المشركون فيها من هزيمة وهوان وما بدأ الدين الجديد يحققه من رسوخ وانتصار أثارا أحقاد مشركي مكة ورغبتهم في الثأر ومحاولة استعادة مكانتهم بين العرب ووقف المد الإسلامي البازغ. فكانت غزوة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة. وهي غزوة لم يسع لها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ولكن فرضها الكفار. فقد خرج الكفار لقتال الرسول وقد استمدوا أي استعانوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة. وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن. وقصدوا المدينة فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة. فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة وأن بقراً له تذبح. وأنه أدخل يده في درع حصينة. وأشار النبي على أصحابه بألا يخرجوا إلى الكفار وأن يتحصنوا بالمدينة فإن قربوا منها قاتلوهم على أفواه الأزقة. ولكن أغلب الصحابة من الأنصار رأوا أن يخرجوا إليهم ليكرم الله من شاء منهم بالشهادة. فوافقهم الرسول على رغبتهم. وخرج في ألف من أصحابه. واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة فيمن بقي في المدينة من المسلمين. فلما سار النبي نحو أحد انصرف عنه عبدالله بن أبي بن سلول بثلث المقاتلين مغاضباً إذ خولف رأيه. ونهض النبي بالمسلمين. وأشار عليه قوم من الأنصار بأن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى.
وحين نزل النبي صلى الله عليه وسلم الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل جعل ظهره إلى أحد. ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم. وسرحت قريش الإبل والخيل في زروع المسلمين بقناة. وتعبأ النبي للقتال وهو في سبعمائة بينما كان الكفار ثلاثة آلاف. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبدالله بن جبير ورتبهم خلف الجيش. وأمره بأن يرمي المشركين بالنبال لكيلا يأتوا المسلمين من ورائهم. ودفع رسول الله سيفه إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بن خرشة الساعدي وكان شجاعاً يختال في الحرب. وجعلت قريش على ميمنتهم في الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل. وكان في المشركين مائتا فارس وفي المسلمين خمسون فارساً وخمسون راميا.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أمت أمت. وأبلى يومئذ علي وحمزة وأبو دجانة وطلحة وأنس بن النضر بلاء حسناً. وقاتل الناس قتالاً شديداً ببصائر ثابتة وعزائم شديدة وقلوب جسورة فانهزمت قريش واستمرت الهزيمة عليهم. فلما رأى الرماة ذلك قالوا: قد هزم أعداء الله فما لقعودنا هاهنا معنى. فذكرهم أميرهم عبدالله بن جبير أمر النبي إياهم بألا يتركوا مواقعهم فلم يلتفتوا إلى قوله. ثم كر المشركون وولى المسلمون وثبت من أكرمه الله بالشهادة.
ووصل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل رضي الله عنه. وجرح رسول الله في وجهه وكسرت رباعيته (السن بين الثنية والناب اليمنى السفلى) وهشمت الخوذة على رأسه. وأكبت الحجارة على النبي حتى سقط في حفرة فخر على جنبه فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة حتى قام. وقتل مصعب بن عمير فأعطى النبي الراية لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار.
شجاعة نادرة
وظل القتال محتدما. وقتل صاحب لواء المشركين فسقط لواؤهم فرفعته عمرة بنت علقمة الحارثية للمشركين فاجتمعوا إليه وحملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكر دونه نفر من الأنصار قيل سبعة وقيل عشرة فقتلوا جميعاً وكان آخرهم عمارة بن يزيد بن السكن (أو زياد بن السكن). وقاتل طلحة يومئذ قتالاً شديداً. وقاتلت أم عمارة الأنصارية وهي نسيبة بنت كعب قتالاً شديداً. فكأنها في شجاعتها وبسالتها توازي ألف رجل وضربت عمرو بن قمئة من المشركين ضربات. فوقاه درعان كانتا عليه. وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحاً عظيماً على عاتقها.
ونتوقف هنا قليلاً للحديث عن هذه المسلمة المؤمنة المجاهدة.. إنها نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول الأنصارية الخزرجية النجارية من بني النجار.. وهي أم حبيب وعبدالله ابني يزيد بن عاصم. لم تكن مشاركتها في غزوة أحد ودفاعها عن النبي صلى الله عليه وسلم أول ولا آخر تضحياتها في سبيل الله. “لقد كانت إحدى امرأتين وفدتا مع ثلاثة وسبعين رجلاً إلى مكة للقاء النبي صلى الله عليه وسلم ومبايعته عند العقبة. فهي من المبايعات على طول المدى. فقد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان عند الشجرة التي رضي الله عن كل من بايع تحتها وأثبت ذلك في محكم التنزيل فقال جل شأنه: “لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريباً” (6).
ولقد خرجت نسيبة إلى غزوة أحد مع زوجها وولديها فقاتلت قتالاً شديداً وجرحت اثني عشر جرحاً وأظهرت في قتالها شجاعة نادرة نالت إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن رآها من أصحابه تصول وتجول وتضرب بسيفها هنا وهناك ومعها زوجها وولداها يعاونونها في قتال العدو. ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسرة وهي تمضي في طريقها إلى أحد في ثقة ويقين فقال لهم: “رحمكم الله أهل البيت. بارك الله فيكم أهل البيت” فاغتنمت نسيبة هذه الفرصة وقالت: يا رسول الله ادع الله أن نرافقك في الجنة. فقال: “اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة”. ففرحت نسيبة فرحاً شديداً وقالت: “ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا بعد ذلك”(7) ومضت إلى القتال. وكانت تدور تسقي المقاتلين.
فلما تحول الحال وانهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصفوة الذين أحاطوا به. فلما ولى الناس عن النبي جاء ابن قمئة يقول: دلوني على محمد. لا نجوت إن نجا. فتصدت له أم عمارة ومصعب بن عمير وآخرون ممن أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فكان ما كان من إصابتها.
من يطيق ما تطيقين؟
ولقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المسلمة المحتسبة فقال: “ما التفتُّ يميناً ولا شمالاً إلا رأيت أم عمارة تقاتل دوني”. وأي شهادة أبلغ وأكرم من شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى سليمان الثوري ومعمر بن كراع عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جده عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله رجلين عليهما ثياب بيض يوم أحد لم أرهما قبل ولا بعد. ورأى النبي رجلاً معه ترس لا يتترس به وأم عمارة ليس معها ما تحمي به نفسها فقال النبي للرجل: “ألق ترسك لمن يقاتل”. فأعطاها الرجل ترسه فمضت تقاتل. وحين رآها النبي تنزف نادى ابنها قائلاً: “يا ابن أم عمارة أمك أمك. اعصب جرحها. بارك الله عليكم من أهل بيت. مقام أمك خير من مقام فلان وفلان”. وجرح ابنها فنزف بغزارة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “اعصب جرحك” فسمعته أم عمارة وكانت معها عصائب قد علقتها في وسطها فأخذت منها وربطت جرح ابنها وقالت له: انهض فضارب القوم. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟”.
ثم شاهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد قليل من أصاب ابنها فأشار إليه النبي وقال لها: “هذا ضارب ابنك” فسارعت نحوه وضربته في ساقه فوقع على الأرض ثم أجهزت عليه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك من عدوك وأراك ثأرك بعينيك”(8).
وتمضي الأيام والسنون وترتفع راية الإسلام. ويفتح المسلمون مكة بإذن الله وعونه. ويلحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وينقلب المرتدون المنافقون على أعقابهم فكانت معركة اليمامة وهي من أشرس المعارك على المسلمين وفيها قتل ابنها حبيب. فمضت تطلب قتل عدو الله مسيلمة الكذاب فإذا به قتيل وإذا عبدالله ابنها الآخر هو الذي أخذ بثأر أخيه وخلص الإسلام من رأس الفتنة.
إن موقف أم عمارة هو موقف متصل بطول حياة كاملة. وهو موقف كان محل ترحيب وتشجيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قرر أن النساء شقائق الرجال.
مع تحياتى *****الظاهر بيبرس