بسم الله . هذه هي الحلقة الثانية في مُدَارسة غزوة الأحزاب .
وفي هذه الحلقة درس في علاقة الراعي برعيته والقائد في كتيبته، ودرس ثاني في أهمية التبشير بالنصر، وبث روح التفاءل في نفوس الجند، ودرس ثالث في بركات الجهاد وكرامات المجاهدين، ودرس رابع في فضل المكائد الحربية، ودرس خامس في حرب الرسائل، ودرس أخير – في هذه الحلقة – حول تدارك الثغرات والثلمات فقد يُأتى المجتمع الحريز من ثغرة هينة ومعظم النار من مستصغر الشرر.
القائد بين جنوده :
قال جابر - رضي الله عنه - :
إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ [ أي صخرة ] شَدِيدَةٌ فَجَاءُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ فَقَالَ: " أَنَا نَازِلٌ" ..
ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ- وَلَبِثْنَا ثلاثة أَيَّامٍ لا نَذُوقُ ذَوَاقًا- فَأَخَذَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الْمِعْوَلَ فَضَرَبَ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ - أَوْ أَهْيَمَ-، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ. فَقُلْتُ لامْرَأَتِي :رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ !فَعِنْدَكِ شَيْءٌ ؟
قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ [أي أنثى المعز].
فَذَبَحَتْ الْعَنَاقَ، وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الأثَافِيِّ [أي الـحَجر الذي تُوضَعُ عليه القِدْرُ ] قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ. قَالَ : "كَمْ هُوَ ؟".. فَذَكَرْتُ لَهُ .. قَالَ : "كَثِيرٌ طَيِّبٌ " .. قَالَ: " قُلْ لَهَا لا تَنْزِعْ الْبُرْمَةَ ولا الْخُبْزَ مِنْ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ" .. فَقَالَ: " قُومُوا".. فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ !! فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ ! جَاءَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ..
قَالَتْ : هَلْ سَأَلَكَ؟
قال :نَعَمْ
فلما أقبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأهل الخندق
قَالَ : "ادْخُلُوا وَلا تَضَاغَطُوا " ..
[ قَالَ جابر: فَجَلَسَ وَأَخْرَجْنَاهَا ( يعني الشويهة) إلَيْهِ . قَالَ فَبَرّك وَسَمّى اللّهَ] [ابن هشام 2 / 218]
فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ قَالَ : "كُلِي هَذَا، وَأَهْدِي فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ"..[ البخاري : (3792)].
في هذا المشهد، نرى نبينا – صلى الله عليه وسلم – بين جنوده، وفي خدمة جنوده في أول المشهد وآخره ..
فكان في خدمتهم لما عَرَضَتْ عليهم صخرة شَدِيدَةٌ، فقال في تواضع جم :" أنا نازل"، وتحرك بمعوله الكريم صوب الصخرة؛ لينسفها نسفًا، وهو أشجع الشجان، وأقوى الرجال – صلوات ربي وسلامه عليه - .
وكان في خدمتهم في آخر المشهد، لما جاء جابر وقد أعد " طعيم" – على حد قوله – لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فما كان من القائد أن أطعم جنوده بنفسه، ووقف يوزع لهم الطعام بشخصه، حتى إذا ما أكلوا وشبعوا أكل هو.. !
إنها القيادة الرشيدة التي تهوى إليها الأفئدة بمثل هذه السلوكيات الكريمة، والأخلاق الحميدة، فما كان النبي- صلى الله عليه وسلم – ليرضى أن يَطعم طعامًا قبل رجاله، وهو الذي يصَّبرهم على العوز، وليس من أخلاقه أن يجلس إلى الموائد الشهية الفاخرة خلسة من وراء جنوده، أو أن يتميز عنهم في طعام أو شراب ..
وهذا درس لقادة الدعوات الذين أفلحوا في التنظير، ولم يفلحوا في كسب احترام جماهير المدعويين، ونجحوا كواجهة دعائية ولم ينجحوا كقدوة تربوية، وأجادوا وأبانوا العلم والفكر والدعوة، وفشلوا فشلاً ذريعًا في نصب راية الدعوة في ميدان الحياة، فضلاً عن مجتمع الدعاة الأقران. وخليق بجميع الدعاة كبارًا وصغارًا؛ أن ينزلوا إلى ساحة المدعويين وإلى ميدان العمل ومشاركة الناس همومهم وتحطيم صخور أحزانهم بمعاول الإيمان والقرآن، وليَقُلْ ذلك الداعي الساكن في البرج العاجي : " أنا نازل " ، أي إلى الشارع والحي والمجتمع، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
إن الفطنة والألمعية والجهبذة لن تفلح ما دامت نائمة في رؤوس العلماء والدعاة ولم تخرج إلى واقع الحياة ! كزير الماء الذي أُحكم غلقة ولم يستفد منه أحد .
أهمية التبشير بالنصر والفتوحات وقت المحن :
إن من أخلاقيات القيادة الإسلامية في ميادين القتال، التبشير بالنصر والتفاؤل بالظفر، والعمل الإعلامي الجاد المتواصل في بث روح الثقة في نصرالله ومدده ..
ففي مشهد الكدية التي عَرَضَتْ على الرجال، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، ليحطم الصخرة التي أرهقت الجنود، َقَالَ :
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " ..
فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ ! وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ! فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بَرْقَةٌ .. ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ، وَقَالَ :
"تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" ..
فَنَدَرَ الثُّلُثُ الآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ!! فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ:
" تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " ..
فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ ..
قَالَ سَلْمَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ !!
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
" يَا سَلْمَانُ .. رَأَيْتَ ذَلِكَ ؟؟ "
فَقَالَ: إِي، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ !
فقَالَ النبي – صلى الله عليه وسلم - : " فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الأولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا، وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ !!!" !!!
قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ... !!
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِذَلِكَ .
قال : " ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ، وَمَا حَوْلَهَا، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ!!!" !!!
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ ...
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِذَلِكَ
" ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الْقُرَى، حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ!!!" !!!
فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذَلِكَ: " دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ"[النسائي: (3125)، وصححه الألباني].
أرأئيتَ هذا النبي العظيم وهو في كُربة الحرب وقد تكالب القاصي والداني عليه ووأشكت المدينة أن تكون كَلئًا مباحًا للأعراب واليهود – تراه كالطود الشامخ والعَلَم الراسخ يثَّبت الأرض من حوله، ويرَّسخ الإيمان في جنده، وينشر أحاديث البشائر، وأخبار الفتوحات، وأناجيل النصر، وفتح أوربا وأسيا وأفريقيا .. فيثَّبتَ الجند، ويخفف عنهم .. وهو بهذه الأحاديث التي تُحيي النفوس؛ يسلِّيهم، ويُخَّفض عنهم، ويخفض جناحه لهم، ويَرؤفُ بهم، ويرحمهم .
فما أحوجنا إلى الداعية المُبشر لا المنفر، المُيَّسر لا المُعسِّر، المعتدل لا المتنطع، المتوسط لا المتكلف.
الداعية الذي يغرس في نفوس الناس والنشء بذار الإيمان والثقة بنصر الله، والذي يؤكد للناس مرارًا أن الدائرة للإسلام وأن الله متم نوره وأن الغلبة لدينه والعاقبة لأوليائه والتمكين لجنوده والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يؤمنون .
بركات ومعجزات :
وعندما ينهمك الرجال في العمل الجهادي الخالص، سرعان ما يُعايشون كرامات المجاهدين وبركات الجهاد، تلك البركات التي تجعل من القليل كثير، وتجعل من طعام الواحد ما يكفي لمئات ..
قَالَتْ بْنِت بَشِيرٍ بن سعد:
دَعَتْنِي أُمّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ ، فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي ، ثُمّ قَالَتْ : أَيْ بُنَيّةُ، اذْهَبِي إلَى أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا ، قَالَتْ فَأَخَذْتهَا ، فَانْطَلَقْت بِهَا ، فَمَرَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي ، فَقَالَ : "تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ مَا هَذَا مَعَك ؟ " قالت : يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدّيَانِهِ. قَالَ:
" هَاتِيهِ"، قَالَتْ :فَصَبَبْته فِي كَفّيْ رَسُولِ اللّهِ- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَمَا مَلأتْهُمَا ! ثُمّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمّ دَحَا بِالتّمْرِ عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ الثّوْبِ، ثُمّ قَالَ لإنْسَانِ عِنْدَهُ: " اُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ : أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ !".. فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْهُ! وَجَعَلَ يَزِيدُ!حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ!![ابن هشام 2 / 218] .
وفي هذا المشهد على ما فيه من المعجزة الحسية المُبيِنة، أنْ أنمى اللهُ الطعام في يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بهذا الشكل العجيب، فطعمَ طعامُ الكف الجيشَ عن بكرة أبيه – وفي ذلك تثبيت للقلوب في هذه الظروف التي قال فيها المناقون : " ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا " ... ـ إلا جانب هذا المشهد الإعجازي نرى نرى مشهد البركات التي يصبها الله صبًا للمجاهدين، تلك الكرمات التي تتجلى في مشاهد الجهاد، وهي كرمات لن تعدمها ساحات الوغى ما دام المجاهد أقبل إلى الله بقلب صادق منيب.
وكلاهما – مشاهد المعجزات للنبيين ومشاهد الكرامات للمجاهدين – تتنزل ليربط الله على قلوب المؤمنين، ويمددهم بين الفينة والأخرى بمدد من عنده، حتى يمنحهم أكتاف العدو. فاصْدقْ جاهدك، يصدقكَ الله في التثبيت .
الحصار :
لَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْخَنْدَقِ ، أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتّى نَزَلَتْ بِمُجْتَمَعِ الأَسْيَالِ مِنْ رُومَةَ ، بَيْنَ الْجُرُفِ وَزُغَابَةَ فِي عَشْرَةِ آلافٍ، منهم بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ، حَتّى نَزَلُوا بِذَنَبِ نَقْمَى ، إلَى جَانِبِ أُحُدٍ [ابن هشام 2 / 219] .
فلما تقدموا، وكانت مفاجئة الخندق، قَالُوا – في ذهول - : إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُهَا [ابن القيم : زاد المعاد 3 / 240]
وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ -صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَالْمُسْلِمُونَ حَتّى جَعَلُوا ظُهُورَهُمْ إلَى سَلْعٍ ، فِي ثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ عَسْكَرَهُ وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ. وقد َاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ .. وَأَمَرَ بِالذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ فَجُعِلُوا فِي الآطَامِ [ أي الحصون ][ ابن هشام 2 / 219، 220].
لقد ظهرت أهمية الحيل الحربية في هذا المشهد، وتبيَّن رجحان فكرة سلمان، وظهر لنا كيف أن عقل رجل واحد قد يُنجّي أُمة من الهلاك كما في مثال حيلة الخندق التي كانت ثمرة تفكير رجل من المسلمين. فكم من عقل سعدت به البشرية دهورًا وكم من عقل تعست به الأرض قرونًا !
ولقد ظهر للمتبصر كيف أن تعب ساعة قد يريحَ دهرًا، وكسل لحظة قد يُتعبَ زمنًا، فهؤلاء الصحاب تعبوا أشد التعب في حفر الخندق فكان في ذلك مفازتهم، ولو تأخروا عن هذا العمل الشاق الهام لكان في ذلك هلاكهم . فلا تكسل أبدًا، وتحيل كل حيلة – شرعية - في نصرة الإسلام .
حرب الرسائل :
وأراد المشركون أن يشنوا حربًا نفسية برسالة توبيخية استفزازية.. فأرسل أبو سفيان رسالة مكتوبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم – جاء فيها :
" باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى.. وأساف ونائلة وهبل، لقد سرتُ إليك في جمع وأنا أريد أن لا أعود إليك أبداً حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فراراً من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد" .
فأرسل له رسول الله -صلى الله عليه وسلم - جوابه فيه:
" بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، فقد أتاني كتابك، وقديماً غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب "[ الحلبي : السيرة الحلبية 2/ 628]
لا يخفى عليك خطر حرب الرسائل بين الجحفلين، ولا تَغيب عن ناظريك تلك الحروب الكلامية التي يتلاحاها الخصوم في كل عصر ومَصر، وإن شئت انظر في قناة الجزيرة الفضائية وفي غيرها من القنوات الإخبارية؛ لترى أثر الكلمة، ووقع اللفظة في الاقتصاد والعلاقات وتحريك دفة الصراعات .
ومن ثم أراك تدرك حكمة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الرد على رسالة أبي سفيان هذه، على ما عُرف عن الأخير بالغوار البعيد في الدهاء والخِبِّ وجلائل الخُطط، وكيف قام النبي الهبرزي – صلوات الله وسلامه عليه – بتفنيد خطاب أبي سفيان، فقرة فقرة، وجٌملة جملة، فدمغه فإذا هو زاهق قد زوى أثره، وصاحبه أسيف حسير، كمن ألقى قنبلة مسيَّلة للدموع في جهةٍ فتلقفها القوم سراعًا قبل انفجارها؛ فرٌدتْ عليه فانفجرت فيه .
بل تراه – ليردعه - ينكأ له جرحه القديم في بدر، قائلاً :" وقديماً غرك بالله الغرور ". وتراه يلوذ بحول الله ولا يتكبر فيقول : " أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه" ، وتراه يستبشر لجيشه ويثبط عدوه فيقول : " ويجعل لنا العاقبة" .. وينفث الرعب في قلب أبي سفيان ومَن خلفه، فيقول : "وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافاً ونائلة وهبل" .. ويوبخه قائلاً : " حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب " ........ هكذا يَلْقم القائد هذه المحاولات التي تهدف إلى زعزعة النفوس وخلخلة القلوب، فيردها على العدو وبالاً كالحريق المتسعر .
الحراسة وتدارك الثغرات ومتابعتها :
وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم - يختلف إلى ثلمة في الخندق. تقول عائشة رضي الله عنها: وكان يذهب إلى تلك الثلمة، فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني، فإذا دفيء خرج إلى تلك الثلمة ويقول: ما أخشى أن تؤتي المسلمون إلا منها، فبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حضني صار يقول : "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"، فسمع صوت السلاح، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" من هذا؟". فقال سعد بن أبي وقاص: "سعد، يا رسول الله أتيتك أحرسك !".
فقال:" عليك هذه الثلمة فاحرسها" ..
ونام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى غط، وقام في قبته يصلي لأنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة"[ الحلبي 2/ 628]
ثم خرج من قبته، فقال: "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق" .. ثم نادى :" يا عباد بن بشر" ..
قال: لبيك
قال : "هل معك أحد ؟ "
قال: نعم أنا في نفر حول قبتك يا رسول الله .
وكان ألزم الناس لقبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم يحرسها- فبعثه يطيف بالخندق، وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف بهم [الحلبي 2/ 628]..
ولما استأخر المشركون الفتح، تَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقًا مِنْ الْخَنْدَقِ ، فَضَرَبُوا خَيْلَهُمْ فَاقْتَحَمَتْ مِنْهُ فَجَالَتْ بِهِمْ فِي السّبْخَةِ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ ، وَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السّلامُ - فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَخَذُوا عَلَيْهِمْ الثّغْرَةَ الّتِي أَقْحَمُوا مِنْهَا خَيْلَهُمْ ، فسدوا هذه الثغرة [ابن هشام 2 / 224].
إن في ذلك لعبرة لمن احتاط تمام الاحتياط ثم ترك في جُنته ثُّلمة ولو بمقدار قيد أنملة ...
وهو درس يشي باهتمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بثغور الوطن، ويحث المسلمين على الرباط والحراسة في سبيل الله فيقول : "ليت رجلاً صالحاً يحرس هذه الثُّلْمَةَ الليلة"..
وهو القائل : " عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " [ الترمذي : 1563، عن ابن عباس، وصححه الألباني ].
والحراسة في سبيل الله كالجهاد سواء بسواء، فقال – صلى الله عليه وسلم - :
" رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا " [ البخاري : 2678 ، عن سهل بن سعد ] .
وتراه يقطع نومته إلى الصلاة تارة وإلى جنوده تارة أخرى محذرًا إياهم قرصنة من العدو ، قائلاً : "هذه خيل المشركين تطيف بالخندق" . . ثم نادى :" يا عباد بن بشر" – ليكلفه بمهمة المتابعة، فكان جواب الجندي لقائده – في رباط وجأش - :
" لبيك " !!!
ويْ ! هكذا لبَّاه ! فالجندي المسلم يرى طاعته لقائده عبادة يُثاب عليها، فتره يجيب قائده بأطايب الإجابات مثل : " لبيك " ، و" سمعًا وطاعة" ..
وهكذا كانت الحراسة في سبيل الله عبادة عظيمة، وسد الثغرات الحربية عبادة عظيمة ، وسرعة استجابة الجندي لقائده عبادة عظيمة .
إن هذا الجيل الفريد عاش العبادة بكل معانيها وفي كل مناحيها ... حتى النخاع.
فلقد تعلموا الحراسة في سبيل الله كما يتعلم أحدهم الصلاة، وتريضوا على سد الثغرات الأمنية كما يتريض الطفل للصيام، ولم يكن يُثْني أحدُهم عِطْفه – في قِحة – عند تلقي التعليمات والتكليفات، بل كانت كلمة الطاعة تنطق بها كل ذرة في أنفسهم . لبيك ، لبيك ....